الخلافة في زمن الخرافة

الذين طمحوا للخلافة منذ سقوطها في تركيا غاب عنهم أن الزمان اختلف، وأن الخلافة الحقة غابت عن الأمة زمنا طويلاً

الخلافة منذ انهيار الخلافة العثمانية, وهي مطمح حكام وجماعات وأفراد, وعلى مر الأيام لم يغب حلم إعادتها إلى الحياة, ولم يفارق الكثيرين, رغم أن الزمن كلما ابتعد عن ذلك التاريخ الذي غابت فيه الخلافة على صورتها التي كانت آنذاك أبعد ما تكون عن الخلافة التي اختزنتها عقول المسلمين في العهد الأول للإسلام, والذي كانت فيه الخلافة الراشدة, والتي لا تزال تهفو إليها قلوب المسلمين حتى اليوم, ولكن الذين طمحوا إليها منذ سقوطها في تركيا غاب عنهم أن الزمان اختلف, وأن الخلافة الحقة غابت عن الأمة زمنًا طويلاً, فقد كان زمانها ثلاثين سنة تلاها المُلك العضوض, كما أبان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, والعودة إليها بذاك البهاء يحتاج إلى جهاد في الزمن قد يطول, كما أنه قد غاب لأن الظروف المحيطة بهم فيها من العوائق الكثير الذي معه يكاد أن يستحيل أن يجتمع المسلمون على حاكم واحد يجمعهم في دولة واحدة, وهذا الكم الكبير من الخلافات بينهم ظاهر ومعلوم, والدول القوية عالميًا تغذي هذه الخلافات وتوسعها, حتى كاد ألا يبقى بين دولة إسلامية وأخرى من الروابط ما يمكن به أن يجتمعا لها في وحدة, ولكن في صداقة قاعدتها المصالح, كما هو حال من يغذون خلافاتهم, ورأينا جماعات إسلامية كما هي جماعة الإخوان طمحت إلى تحقيق الخلافة, بل وصممت أكثر إلى أستاذية العالم التي ترددت في أدبياتها, رغم علمها يقيناً أن مزاعمها هذه مجرد أوهام لن تتحقق, بل رأينا حزبًا اسمه التحرير ظل يعيش على وهم إقامة الخلافة, حتى لم يعد ينتمي إليه إلا أعداد قليلة لم تدرك بعد أن هذا في ظل هذه الظروف التي تمر بالمسلمين وبالعالم من حولهم لن تتيح تحقيق أمرًا كهذا, بل رأينا فردًاً يذهب لإحدى الدول الغربية, ثم يعلن من هناك أنه الخليفة لهذا الزمان, وعند اختلاف يقع بين الجماعات المنتسبة إلى الإسلام زورًا, والمرتهنة للعنف منذ ظهورها وبين سائر المسلمين, تراهم قد استحضروا في التاريخ ألقابًا لم يعد لها وجود, فهذا أمير للجماعة يبايعونه على العدوان على مجتمعات المسلمين الآمنة, وقد يرقى -عندهم- لقب أمير الجماعة هذا إلى لقب أمير المؤمنين, كما هو عند رئيس طالبان في أفغانستان, فإذا الدعوة إلى الخلافة تتصدر الأماني, مهما أيقن هؤلاء أن هذه الأماني لن تتحقق, فالخرافة في أذهانهم تكبر وتكبر, فيؤيدونها بأحلام ورؤى, يستمدون منها تخيل لهم يتسع كل يوم أن سيد الخلق المصطفى صلى الله عليه وسلم وافقهم على ما يفعلون ودعا لهم, كما سمعنا وشاهدنا على شاشات التلفزيون لقنوات عديدة أسماها أصحابها إسلامية, وهم من هذه الجماعات التي انتشرت في عالمنا الإسلامي ومارست العنف زمناً, وبعضها لا يزال يؤمن به وسيلة لإجبار الناس على قبول أفكارهم, ولو كانت أفكارًا خرافية لا صلة بها بالواقع, فيقول أحدهم عمن ارتضى أن يكون من أتباعه, أن الله اختاره وارتضاه أميرًا لجماعة المسلمين, ثم تسمع منهم إذا مارسوا العنف القول: بأن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار, ويعنون به قوة الدولة التي تقف في وجه عنفهم وإرهابهم المستمر, والذي يعلنون التوبة مما فعلوا ولا يمض سوى وقت ليس بالطويل حتى يعودوا إلى ما كانوا عليه, وانتشرت إمارات هذه الجماعات في الصحاري, وفوق رؤوس الجبال, ها هم في سهول أفغانستان لا يزالون يمارسون عنفهم على القوى الأجنبية وعلى الأفغانستانيين البسطاء, وها هم لا يزالون في جبال الجزائر, وهم اليوم في تونس في الحدود بين تونس وليبيا والجزائر, والغريب أن حتى من يدعي أنه لا يرتكب عنفًا من هذه الجماعات يتحالف مع من يقومون بالعنف, ويمدهم بالمال ويدافع عنهم بأنهم تخلوا عن هذا العنف, الذي هو في حقيقته محض إرهاب, وهذا المشهد من حولنا وللأسف هو الذي تنبعث منه الأحاديث حول الخلافة وحتمًا ليس بين هذه الجماعات من تمتلك من القدرات والكفاءات والإمكانات لا ما يقيم به خلافة تضم كل دول العالم الإسلامي, بل أن تقيم له في سهله أو جبله إمارة يضمن أن تعيش بأمن في موضعها, فحديث هؤلاء عن الخلافة إنما هو حديث خرافة, فنحن نتحدث منذ زمن طويل عن وحدة إسلامية ولو كان بين عدد محدود من هذه الدول, ولم يحدث أي شيء من هذا عبر الزمن, فحلمنا أن تكون لنا سوق إسلامية مشتركة علها تكون نواة فيما بعد لاتحاد إسلامي, ووقعت دولنا على معاهدة لهذا السوق ولكنها لم توفق في تطبيقها في الواقع, كما أننا في العالم العربي فعلنا هذا أيضًا ولم نوفق حتى أصبحت جامعتنا العربية لم تعد تجمعنا, بل هي أحياناً تُفرّقنا فسياسة «دولة ما» من دولنا يمكنها أن تفسد أي اجتماع للجامعة, فأصبحت جامعتنا العربية لا تستطيع أن تعقد اجتماعًا واحدًا ناجحًا, وحتى التجمع العربي الخليجي الذي حاولنا تحويله إلى اتحاد لم نوفق له حتى الآن, ووجدنا بعض وثائقه لا تزال مجرد وثائق لا يُعمل بها, فلذا نقول لمن يدعون إلى إقامة خلافة كفّوا وحاولوا أن تنشروا فقط بين المسلمين الإخاء والمحبة, وكفّوا أيديكم عن أن تؤذوهم وتفرقوهم, فهذا ما نرجوه منكم, والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: