المبحث الثاني : مشروعية عمرة المكي
العمرة للمكي مشروعة عند الجمهور تدل لذلك أقوالهم وما صح نقله من مذاهبهم .
ينقل الكاساني الحنفي في كتابه “بدائع الصنائع” القول في مذهب الإمام أبي حنيفة : إن المكي يحرم بالحج من دويرة أهله أو من حيث شاء من الحرم , ويحرم للعمرة من الحل وهو التنعيم أو غيره”
وجاء في موطأ الإمام مالك “أنه سئل عن رجل من أهل مكة يهلّ من جوف مكة بعمرة قال : بل يخرج إلى الحل فيحرم منه “:
وجاء في الإنصاف للمرداوي الحنبلي : وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل سواء كان من أهلها أو من غيرهم وسواء كان بمكة أو في الحرم هذا الصحيح من المذهب وكلما تباعد كان أفضل .
وجاء في المغني لابن قدامة – رحمه الله – قول : “وقد روي عن أحمد في المكي كلما تباعد في العمرة فهو أعظم للأجر هي على قدر تعبها”
وجاء في الإيضاح في مناسك الحج للإمام النووي قوله : “للعمرة المفردة عن الحج ميقاتان زماني ومكاني , وأما المكاني فكميقات الحج على ماسبق إلا في حق من هو بمكة سواء كان من أهلها أو غريباً فإن ميقاته في العمرة الحلّ , فيلزمه أن يخرج إلى طرف الحلّ ولو بخطوة , ثم مذهب الشافعي – رحمه الله – إن أفضل جهات الحلّ للإحرام بالعمرة أن يحرم من الجعرانة فإن النبي أحرم منها بعدها التنعيم ثم الحديبية ”
فهذه النقول تشعرك أنّ الأئمة الأربعة يرون مشروعيتها , وإلا لما تحدثوا هم وأصحابهم عن ميقاتها , وإنك لواجد مثلها في كتب الفقه في المذاهب الأربعة مختصرها ومطولها بلا استثناء .
وحجة الفقهاء – رحمهم الله – في الغالب في إثبات مشروعية العمرة للمكي أمران :
أولهما : حديث عائشة رضي الله عنها قالت : نزل رسول الله فدعا عبدالرحمن بن أبي بكر فقال : اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم لتطف بالبيت فإني أنتظركما هاهنا , فخرجنا فأهللت ثم طفت بالبيت وبالصفا والمروة , فجئنا رسول الله وهو في منزله في جوف الليل فقال : هل فرغت ؟ قلت : نعم , فآذن في أصحابه بالرحيل .
وهم يرون بذلك أن هذا تشريع من رسول الله لكل من كان بمكة من أهلها المقيمين بها, أو من حلّ بها من غيرهم أنه إذا أراد العمرة خرج إلى أدنى الحلّ فأحرم بها .
وثانيهما : أن نسك الحج والعمرة يلزم للناسك فيهما الجمع بين الحلّ والحرم لإحرامه , والحج يتحقق فيه ذلك بالخروج إلى عرفة وهي من الحلّ , أما العمرة فأفعالها كلها في الحرم بخلاف الحج , فافتقرت إلى الخروج إلى الحل , وذلك يتحقق بالخروج إلى أدناه وهو التنعيم عند الأكثر منهم يضاف إلى ذلك أدلة أخرى تعضد قولهم منها :
(1) ماروي عن أم الدرداء أنه سألها سائل عن العمرة بعد الحج فأمرته بها .
(2) مارواه سعيد بن منصور عن سفيان عن ابن أبي حسين عن بعض ولد أنس رضي الله عنه : أنه إذا كان بمكة فحمحم رأسه خرج إلى التنعيم واعتمر
(3) ما رواه عمرو بن دينار عن ابن كيسان قال : سمعت ابن عباس يقول : “لا يضركم يا أهل مكة أن لا تعتمروا فإن أبيتم فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن وادٍ” قال عطاء: بطن واد من الحل, وقد سئل عطاء عن عمرة التنعيم فقال: هي تامة مجزئة
(4) ما رواه الترمذي عن ابن سيرين مرسلا قال : وقّتَ رسول الله لأهل مكة التنعيم ” أي لعمرتهم .
ولذلك كله فلا شك أن العمرة للمكي مشروعة بهذه الأدلة مجتمعة , وهي الحال الذي عليه أهل مكة قديماً وحديثاً , يخرجون إلى التنعيم أو غيره من الحلّ ويعتمرون , حتى أنّ بعض القائلين بأن الطواف يجزئ أهل مكة عن العمرة قد فعلها وهو بمكة كعطاء حيث يقول : اعتمرنا بعد الحج فعاد علينا ذلك سعيد بن جبير .
والحقيقة أنك لن تجد أحداً من الفقهاء قال : إن العمرة لأهل مكة غير مشروعة وإن وقع منهم الاختلاف في وجوبها عليهم أقصد أهل مكة , حتى أن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وهو الذي يرى أن الطواف بالبيت أفضل من العمرة لأهل مكة لم ينازع في مشروعيتها فقد قال بعد أن ذكر أن أنساً رضي الله عنه إذا كان بمكة فحمحم رأسه خرج إلى التنعيم واعتمر : “وهذه والله أعلم هي عمرة المحرّم فإنهم كانوا يقيمون بمكة إلى المحرّم ثم يعتمرون , وهو يقتضي أن العمرة من مكة مشروعة في الجملة , وهذا مما لانزاع فيه , والأئمة متفقون على جواز ذلك , وهو معنى الحديث المشهور مرسلاً عن ابن سيرين قال : وقّتَ رسول الله لأهل مكة التنعيم , وقال عكرمة : يعتمر إذا أمكن الموسى من رأسه”
وعلى ذلك فلا نزاع بين العلماء في مشروعية العمرة لمن كان بمكة من أهلها أو من غيرهم .