منح الألقاب في آخر الزمان

اللقب كما نعرف هو ما أشعر بمدح أو ذم، وهو قد ينبئ عن حقيقة من أطلق عليه، فقد نصف العالم بأنه العلامة المجتهد، لأن واقعه ينبئ عن ذلك، فقد أمضى العمر كله يحصل العلم من أدلته، ويرصد الواقع ليجد لكل واقعة حكماً، ولم يكن الناس في البدء يسرفون في الألقاب، فالائمة الأربعة أبوحنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، ومعهم مثلهم وأكثر من أفذاذ العلماء كالليث بن سعد والأوزاعي وغيرهم كانوا درراً في جبين الزمان، وغطت شهرتهم الآفاق، وما زاد العلماء أن لقبوهم بالفقهاء المجتهدين، ومضى الرعيل الأول من سلف علماء الأمة وهم يتبرأون من مبالغة في الألقاب وإن كانوا يستحقون أن يوصفوا بها، وما ظهرت الألقاب المبالغ فيها إلا في العصور المتأخرة، حينما قل العلم، وأحب بعض المنتسبين إلى العلم الشهرة، وتنافسوا في الدنيا، وأعانهم من أطلقوا عليهم من الألقاب ما يرفع قدرهم على ضعف بعضهم علمياً، فأيد الملقبون من لقبهم، فما سمعنا تلك الألقاب الرنانة من العالم الجهبذ والعلامة والبحر وسيد العلماء الناطق بالحق، القامع للباطل إلا في عهود انحسر فيها عن بعض المنتسبين إلى العلم العلم الراسخ، ودب إلى نفوسهم طلب الدنيا بالدين، فكثرت ألقابهم وقل علمهم وعملهم، وكلما تأخر الزمان زادت هذه الألقاب واحتاجها بعض هؤلاء علها تعوضهم عن نقص اعتراهم، وفي عصرنا تكاثرت الألقاب التي تطلق على بعض المنتسبين إلى العلم في العالم الإسلامي، حتى يخشى الإنسان عليهم، وهم يأنسون بهذه الألقاب، وتميل نفوسهم للثناء، وهم يعلمون يقينا أن ما يطلق عليهم إما أنهم لا يستحقونه أصلا، أو استحقوه ولكن الثناء به عليهم علانية وقبولهم له مما يدخل بعض العجب على نفوسهم، وهو أشد محذورا، ولا ينهون عنه من سعى به إليهم، ومن الألقاب التي يكثر ترديدها في هذا الزمان بين المسلمين القول بأن فلانا عالم رباني، والانتساب إلى الرب لا يعني إلا معنى واحدا هو أنه يطيعه مخلصا، ومن هو كذلك لا يعلن عن نفسه بهذه الطاعة إلا ما ظهر منها ولم يستطع أن يخفيه، إلا إن كان ممن يقتدى به ممن رسخ علمه وصدق عزمه وأمن الافتتان بثناء الخلق، وهو في عالم الناس اليوم القليل وقد جهد من سبقنا من أهل العلم من سلف الأمة لتعريف الرباني من العلماء فلم يزيدوا على أن قالوا:انه من يعلم صغار العلم قبل كباره، بل وفي مرحلة الطلب بتعليم لا أكثر، وقد ورد في كتاب الله قوله عز وجل:(ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)، والآية نص في من يطلق عليه هذا اللقب، فالرباني من التزم من حكم الله وشرعه، وطبق ما علم على سلوكه، فلم ينحرف عن ذلك بأي صورة من الصور أليس ربنا يقول: (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ)، فالعالم حقيقة هو من لا يقبل أن يوصف بهذا الوصف، ثناء عليه، وحثاً للناس على اتباعه، لأنه إنما يسعى إلى الناس بما علم من شرع الله يحثهم على اتباعه بعد أن يكون هو قد اتبعه وحافظ عليه، فصدق قوله فعله، فما قصد قط بالرباني أن يقبل قوله أو اجتهاده ولو لم يكن له عليه دليل، ولا أن يقصد به أن من العلماء من ليس ربانياً يخشى منه، ويُصْرَفُ الناس عنه، فنحن في زمان تنافس الناس فيه حتى في الألقاب، وحتما ليس ربانياً من لا يتورع عن الوقوع في أعراض الناس، ولم يطهر لسانه من سبهم وشتمهم بل ولعنهم، واتهامهم ببدعة أو فسوق أو نفاق أو شرك وكفر، وإلى الله المشتكى من زمان لم تعد فيه التقوى معياراً للصلاح، وحل محلها نصرة المذاهب والآراء والاجتهادات، فادعى البعض معرفة الحق عن طريق الاشادة بالرجال ممن ارتضى تقليدهم واتباعهم، ولعل هذا يختفي سريعاً ففي زواله الخير للأمة وهو ما نرجو والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: