هذا العصر تميز العلم فيه بالتخصص، فالعلم الموسوعي المدعى لم يعد هذا زمانه، فقد اكتشف الناس أن قدرات البشر لها حدود لا تتجاوزها، فأصبح التخصص في علم أو معرفة أو خبرة مما يجعل المتخصص أقدر على الإحاطة بكل جزئياته ومسائله، بل أصبح التخصص في جزئيات من العلم غاية لتجويد التحصيل ثم الإبداع فيه، فعلم الطب مثلا تفرع كثيرا وأصبح عندنا أطباء في فروع كثيرة يتخصص فيها الطبيب في أعضاء بدن الإنسان وما يعتريها من أمراض، وتخصص أخرى في بعض الأمراض استزادة في تحصيل المعرفة والخبرة ثم جودة التشخيص.
والعلوم الدينية ككل العلوم تفرعت وأصبحت متعددة، حتى داخل العلم الواحد، وحتى أصبحت بعض مسائلها يفني العالم عمره في دراستها، وهي علوم بعضها يحتاج إلى جهد من العالم مضاعف عمره كله حتى يكون فيها مبدعا، وليست كما يتصور من لا اطلاع له عليها أمور ميسرة لكل من قرأ أن يحصل أصولها وفروعها في أيام معدودة، فتراه يقرأ نقدا لمسألة علمية من غير متخصص فيبني عليه معرفة هي والجهل سواء، ثم يتحدث عنه وكأنه اطلع على العالم كله، والمتخصص في هذه العلوم حتما لا يحتكرها لنفسه، ولا يقول إني وحدي من يعلم، وإنما يرجو ألا يتحدث في العلم إلا من حصله مثل تحصيله وتخصص فيه مثل تخصصه، أما ذاك الذي لم يحصله ولم يعكف على تخصص فيه زهرة عمره، فهو إن خاض في هذا العلم أتى بالعجائب، وهو ما هو ملاحظ اليوم بشكل ظاهر، فرأينا من يريد هدم علوم القرآن كلها، ويريد أن يقول في كتاب الله بغير علم، وهو لم يقرأ من هذه العلوم إلا صفحات معدودة، فإذا به يحمل آيات الله ما لا تحتمله، ويستنبط أحكاما غاية ما تقول فيها إنها هذيان ممن لا عقل له.
وهكذا نجد من يزعم أن علماء المسلمين من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى يوم الناس هذا لم يفهموا النصوص الشرعية، وهو وحده الذي علم ما جهلوه، في اعتداد بالنفس ممقوت، وهو يجهل كل ما علموه ولكن الجهل يقود إلى المواقف من هذا النوع المضحك.
واليوم من يتابع ما ينشر وما يبث عبر قنوات الفضاء، ووسائل الاتصال الاجتماعي على الانترنت والمواقع على صفحاته، يجزم أن الناس كلهم من الأمي في حرفته، والمتعلم في وظيفته، والمتخصص في علوم مختلفة ما سوى علوم الدين يرى الجميع يدعي العلم بالدين، ولا يكتفي بهذا حتى يفتي فيه، ولا علم له به ولا صلة له بعلومه.
بل بعضهم يبلغ به العته أن يتطاول على رموز العلم الشرعي بداية من علماء الصحابة والتابعين ومن جاءوا بعدهم كالائمة الأربعة وعلماء الحديث البارزين كالبخاري ومسلم وغيرهما، ويدعي أن هؤلاء هم من أفسدوا الدين على أهله، في صفاقة لا حدود لها.
وإن كان هو متخصصا في الطب لم يرضَ لمتطبب ولو قرأ كتب الطب في فرع تخصص معين، أن يعالج الناس، أما أن يفتي في مسألة لو عرضت على سيدنا عمر بن الخطاب لجمع لها الصحابة قبل أن يقول فيها بقول يفتي فيها مرتاحا، وكذا المتخصص في علم النفس لو تجرأ أحد على الخوض في تخصصه وهو لا يعلمه لاشتد نكيره عليه، أما هو أن يفتي فيما ربط بين الرسول-صلى الله عليه وسلم- وزوجاته فيأتي بالعجائب، ويتجرأ على خير الخلق وامام الرسول وخاتم النبيين وزوجاته أمهات المؤمنين بما لا يمكنه أن يتجرأ به على والده وزوجاته فذاك أمر يرى أنه من حقه!!.
ولا أحد أبداً يشك في أن العلم الشرعي “الديني” متاح لكل مسلم من حقه أن يتعلمه حتى إذا بلغ فيه الغاية، وكان ممن يستطيع الخوض فيه بعلم، فله ولاشك إن يتحدث فيه، بل وإن بلغ رتبة من العلم تؤهله للاجتهاد فيه، فلا أحد له الحق في منعه من الاجتهاد.
بل المسلم أيا كان العلم الذي تخصص فيه يجب أن يتعلم أبوابا من علوم الدين ليستطيع أن يعبدالله بحق، كأبواب العبادات، وفي المعاملات على كل ممارس لون منها تعلم أحكامه، فغاية كل مسلم أن يتعبد الله بما شرعه الله، ليؤدي ما وجب عليه شرعا، وليترك ما نهاه الله عنه فيحظى برضا الله وثوابه.
وظاهرة التعالم التي شغلت الناس في هذا العصر حتى لا يمضي أسبوع إلا ونصدم بقول لجاهل في دين الله لم يجرؤ عليه الشيطان ذاته هذه الظاهرة إنما تعود إلى أمرين:
1- غلو في الدين وتشدد فيه حتى يظن صاحبه ألا أحد أعلم بالدين منه وهو لم يعلم منه إلا القشور.
2- متحلل من الدين يرى كل أحكامه تقيد رغباته وهو لا يستطيع أن ينتقد الدين ذاته فيتجرأ بالقول فيه بلا علم ويهاجم من له به علم، لأنه لم يوافقه على ما يريد.