إن الوظيفة العامة أمانة في عنق من يتولاها، ومن يُعيّن لها ليؤدي مهامها بإخلاص، يراعي ربه في كل عمل يأتيه من أجلها، فإنما هي ولاية من الولايات العامة، التي أمر الله فيها أن تؤدى الأمانات بها إلى أهلها، والأمانة تبدأ بحسن اختيار من يتولاها، خاصة هذا الذي يتولى رئاسة أي نوع من الإدارات كالمسؤولين والمديرين، ممن يتولون مسؤولية قطاع عريض من الخدمات الضرورية التي يجب أن توفر لجل المواطنين،
وكذلك المسؤولين عن جملة من المرافق التي تقوم عليها حياة الناس، وهي حقوق يجب أن تؤدى إليهم، فرئيس القسم كمدير الإدارة كرئيس المصلحة، كلهم يحتاجون إلى أن يكون قويًا في شخصيته، وفي اتخاذ القرارات، فالقوة أحد ركني الولاية المذكورة في قوله الله تعالى: (إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ)، ولهذا لا يُولّى ضعيف الشخصية ممن يعتريه الوهن عند اتخاذ القرارات الضرورية، والتي تحتاج إلى حسم سريع، لهذا لمّا قال أبوذر الغفاري -رضي الله عنه- لسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله ألا تستعملني، ضرب رسول الله -عليه الصلاة والسلام- على منكبه وقال: (يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)، لهذا فحسن اختيار من يشغل الوظائف العامة من أوجب الواجبات العامة وأعظمها خطرًا، ولهذا قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه (من وُلِّي من أمر المسلمين شيئًا فولّى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله)، وورد في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه أن من ولّى امرأً وهو يجد خيرًا منه فقد خان الله ورسوله، فأول ما يجب ما يتصف به شاغلها: العلم بما تقتضيه الوظيفة، وأن يكون مؤهلاً لها معرفة وخبرة، ثم الأمانة، وهي الشق الثاني للولاية بعد القوة، بحيث يكون مخلصاً لله في كل ما يأتي أو يدع من شؤون العامة، لا يتوخى به سوى المصلحة العامة، ويسعى لتحقيقها بكل السبل المشروعة والممكنة، والأمانة ولاشك مرتبطة بالتقوى التي هي التزام تام بما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، ومروءة تمنع صاحبها من الصغائر ومن كل ما يعاب وإن كان مباحًا، والتقوى مرتبطة بالعدالة وهي وصف في الإنسان يجعله يأتي بكل الطاعات، ويترك المحرمات، ويصون عرضه أن يقع فيه الناس، فيجتنب كل ما فيه شبهة، فإذا تولى الوظائف العامة الصالحون لها من المواطنين، الذين يتدينون حقيقة، لا يطلبون بفعل يأتونه، أو فعل يتركونه، سوى طاعة ربهم، فحينئذ لن تجد في الإدارة حكومية أو أهلية، من يتسلق إليها لتحصيل منافع شخصية له، فيكثر الفساد عبر هذا، حتى يبلغ الدرجة التي تجعل بعض إدارات الخدمات المهمة تتراجع خدماتها، للدرجة التي تجعل بسطاء الناس يعتقدون أنهم لن يحصلوا على ما هي حقوق لهم من هذه الخدمات في ظل هذا التراجع، والذي ما إن يبدأ حتى يتوالى، أدرك الناس هذا في شتى أرجاء الأرض بالتجربة، وبروز مثل هذا التراجع في بعض الإدارات ذات الصلة بالعلم خطر جدًا، فبروزه في بعض الجامعات نذير خطر، يجب ألا نهمله، فإنه إذا بلغ الجامعات فهو إلى ما هو أدنى منها أسرع، لما تتمتع به الجامعات من وجود أرفع المؤهلين تأهيلاً عاليًا فيها، وهم الأجدر بأن يكونوا على أكبر قدر من الالتزام برفيع الأخلاق، فالتدين سادتي -لا يعني مظاهره التي استقرت في وعينا الجمعي زمنًا، من المظهر الشكلي، وأداء الصلوات في جماعات، وما شابه ذلك فقط، فالمحك في التدين هو التعامل، الذي أوجب الله فيه علينا العدل بيننا، بحيث نتساوى في الحقوق والواجبات، وليس لمن يدعيه بلسانه ويلبس له لبوسه الظاهرة، ثم لا يلتزم بشيء غير هذا، فهل نحن مدركون لهذا هو ما أرجوه والله ولي التوفيق.