في ثقافتنا الإسلامية اهتمام ملحوظ بالبلدان وفضلها، وتلمس ذلك في الآثار والأخبار، وخاصة ما نسب منها إلى سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الأخيار، ثم تابعيهم بإحسان، وكتب تاريخ البلدان مع أخبار رواة السنن وأنسابهم كثيرة، تمثل ذخيرة تراثية هامة للأمة، فقد ألف العلماء في أخبار مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتاريخ بغداد، وتاريخ دمشق، ونيسابور، وكل حواضر الخلافة الإسلامية قديماً، وضمنوها تراجم العلماء وأنسابهم، واعتزت كل حاضرة بمن فيها من العلماء والأدباء وحملة العلوم والفنون في كل باب، وبقي لنا كل هذا تراث عظيم نرجع إليه ونكتشف من خلاله معالم حضارة لنا سادت ونرجو إلا تبيد، ونستخرج منه كنوزا نستفيد منها في الحاضر، ولكن التفاخر بما ثبت من ورود ثناء على بلد وتفضيل العيش فيه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- إذا استثنينا الثلاث المدن المقدسة “مكة والمدينة وبيت المقدس” فالصحيح منه في غيرها قليل ونادر، حتى قيل: قلّ أن يصح حديث في البلدانيات، والافتخار بمثل هذا مذموم إذا كان يعني التفرقة بين من سكنوا هذه البلدان وغيرهم، فالناس سواسية لا مفاضلة بينهم إلا بالتقوى، والتقوى تكون من الخلق في سائر أوطانهم، والغريب أنه اشتهر ما يسمى بالبلدانيات يحتشد فيها أحاديث جلها ضعيف أو موضوع في حق كثير من البلدان، حتى لم تكد تجد بلداً إلا وألف عنه كتاب في هذا الباب، وقد اهتم العلماء بالتمييز بين ما ورد فيها من الأحاديث ما كان صحيحا أو ضعيفا أو موضوعاً، أما التعصب لبلد معين أو التفاخر بنسب، وكذا بالطعن فيه أو ذم بلد معين فهو المحرم المذموم، وآثاره خطيرة جدا على لحمة الأمة وتفتيت المجتمعات، وبث التناحر بينها، وهو ما يجب أن يحذره المسلمون كل الحذر، وما بدا يظهر منه ويطفح على الحوارات في منابر عدة باستحضار ما يدعى كل أهل بلد ما يمكنهم أن يكون فيه الثناء على بلدهم، والذم لبلدان الآخرين، بحصر علم أو صلاح في بلد أو أقليم بعبارات مبتذلة فيها من الجهل القدر العظيم، ليثور في مواجهته ذم لبلد المفتخر بهذا، مما قد يصيب أهله ذم ليس يعاضده على سوء فهمه وسوء عباراته، ويحتدم الصراع بينهما فينشأ بسبب هذا ما قد يحمل على التباغض والتعادي، فعلينا جميعاا إلا نسمح بأن يظهر مثل هذا في حواراتنا لأنه من المعاصي الطرة التي يعم ضررها على البلاد والعباد، ويجب أن نقف في وجه من يثير مثل هذا صفا وادا حتى نمنعه من بث بغضاء وكراهية بيننا، فتقسيمنا عبر الأقاليم في دعاوى من لا يريدون الخير لهذا الوطن شر مستطير لابد من مواجهته دينيا وفكريا واجتماعيا، حتى لا يبقى له في العقول أثر، ولعلكم تذكرون في أيام حرب العراق الثانية كيف حاول صدام حسين أن يلعب على أوتار هذه العصبية الأقليمية، ولم ينجح بفضل وعينا ومواجهة دعاويه بشدة، مما حدى بشاعرنا الوزير السفير غازي القصيبي- رحمه الله- أن يشدو بقصيدته الشهيرة:
أجل نحن الحجاز ونحن نجد
هنا مجد لنا وهناك مجد
وقد جاءنا التويتر مؤخراً بتغاريد العصبية المنتنة التي نهى عنا سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال لما اختصم رجلان من صحابته فدعا كل منهما عشيرته أو قبيلته (دعوها فإنها منتنة) ولعل مثل هذه العصبية إذا جاءت على لسان عامي بسيط عذر لجهله، وأمكن تدارك ذلك ببيان فساد ما يقول، أما أن تصدر عن أستاذ جامعي تخصصه الشريعة فالأمر خطير يجب أن ينتبه له ويحذر منه، ذلك أن مثله قد يقتدى به في محيط تلاميذه فتنتشر هذه العصبية بينهم لتهدم ركنا أساسيا من حياتنا بذل من أجله الآباء والأجداد دماءهم ولقوا من أمرهم عسراً حتى تحقق لبلادهم وحدة الأرض والسكان، وجمعتهم وحدة وطنية ثابتة الأركان، تسابقنا في خدمتها، ويجب ألا نتعرض لخطر أبداً، أيا كان مصدر هذا الخطر أو من يحمله إلينا، فالتصدي لمثل هذا واجب ديني ووطني معاً، وعلينا أن ننصح من يحاول فصم عرى هذه الوحدة بقول أو تصرف فإن لم يقبل النصحية فلنحاسبه نظاميا حتى ولو بعرضه على المحاكم، فهل نفعل هو ما أرجو والله ولي التوفيق،،.
الوسومالبلدان
شاهد أيضاً
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …