انظر اليوم إلى ما يجري في مصر وتونس وليبيا، وتفرُّق الناس عن هذه الجماعات الحزبية ونفورها من حكمهم، حينما نفوا التسامح وأحلوا محله التعصب
لعله لا يوجد بيننا من يظن أن التحزب له في الإسلام أصل، فإذا كانت ضرورة الاجتهاد أوجدت المذاهب الفقهية، والتي استقرت في محيط أهل السنة على أربعة مذاهب، وإن كان المجتهدون في القرون المفضلة وما بعدها أكثر من هذا العدد، إلا أن تلاميذهم لم ينهضوا بمذاهبهم لتبقى فاندثرت، ولتنوع الاجتهاد مسوغ شرعي وعقلي واقعي، وهذا أفاد هذه الأمة فالتعدد تنوع أعطى مدارسها الفقهية قوةً وانتشارًا، وفي ضمنه سعة ورفع حرج عن المسلمين، ولصوابه بقي على مرّ العصور، رغم أنه في عصورنا الأخيرة ظهرت دعوات للإعراض عنه، رغبة في توحيد العلم الفقهي في مذهب واحد يدعون إليه، وهو في الحقيقة مهما فعلوا لا يخرج عن هذه الثروة العلمية المتراكمة، أما التحزب فهو صنو التفرق، صورته القديمة الفرق والطوائف القديمة، والتي أنتجت صراعات شتت جهود الأمة وفرقت صفوفها، مع أن أكثر القضايا التي تناقش فيها الوصول فيها إلى اليقين صعب للغاية، خاصة فيما يتعلق بالإلهيات، والتفويض في كثير منها بإمرارها كما جاءت في النصوص الأولى دون التأويل فيها من جميع الفرق، حتى من ينكر هذا التأويل هو الأولى، وهي إشغال لعقول عامة المسلمين بما لا ينفعهم وملء لصدور بعضهم على بعض، ثم جاءت الطامة فانقلب هذا التحزب سياسيًا، وانطوت الأفكار على استعداد للوصول إلى مقاعد السلطة أو السلطان، والأمر في النظم الديمقراطية حق للجميع، وله وسائله من أجل ذلك، تبنى على آليات هذه الديمقراطية ولكن المتحزبين أعداء كلهم لهذه النظم، يهاجمونها في أدبياتهم ما نطقت به الألسنة، وما خطته أقلامهم، وكثير من جماعات التحزب هذه طلبت أن تقنع الناس في كثير من بلداننا بما تؤمن به بالعنف ولم تنجح، فلما طوردت هذه الجماعات وحوكم منظروها وأفرادها أدوات العنف، عادوا من باب السياسة فألفوا الأحزاب في سائر بلداننا العربية، وعندنا تحزبوا فتسمت كل جماعة منها بمن قلدوا ممن ظنوه عالمًا، ورأينا أن اهل العنف الذين اصطلح الإعلام في بلادنا على تسميتهم الفئة الضالة، وكان المنظرون لهم في الغالب في مستواهم العلمي والواقعي، ونحمد الله أن العنف في بلادنا بدأ يتراجع تحت الضربات الأمنية، ونسأل الله ألا يعود إليها ابدًا.
ولكن المشكلة اليوم أن هذه الجماعات الحزبية في العالم الإسلامي والتي تنسب نفسها للإسلام، عندما دخلت معترك السياسة، بدأت تعارك المخالفين لها من الاحزاب الأخرى، فبالغت في العداء للمخالفين، وأنطلقت الألسنة بالفحش والتهديد، وبعض هؤلاء المتحزبين كان لهم دور إجرامي في العنف الذي جرى في بلادهم، مما جعل الناس يتوقعون الشر أن وصل هؤلاء إلى الحكم خاصة غير المسلمين من مواطنيهم، والمسلم الذي ضعفت معرفته بدينه، فظنوا أن أسلوب هؤلاء ما هو إلا لأنهم دعاة إلى الإسلام كما يزعمون، فغيبوا عن الناس كل محاسن الإسلام، فالإسلام الذي يحرم السباب واللعن والشتم والبذاءة، استعملوها وهم يظنون أن هذا يرهب مخالفهم السياسي، بل إن بعضهم في حواراته لمخالفيه يرفع حذاءه في وجوههم، ومن يمتلئ صدره حقدًا على الدين يقول انظروا أليس هذا من تدعون أنه عالم داعٍ، وأسوأ من هذا أن يحشد لمخالفه في السياسة أكاذيب، ويختلق قصصًا ينسبها إليه وأفعالًا وأقوالًا وهو بريء منها، ويكتشف الناس كذبه، وكانوا من قبل وهو يعظهم قد أحبوه ويتفرقون عنه، وحتمًا في النهاية يسقطونه من حسابهم، وانظر اليوم إلى ما يجري في مصر وفي ليبيا وفي تونس، وتفرق الناس عن هذه الجماعات الحزبية، ونفورها من حكمهم، حينما نفوا التسامح وأحلوا محله التعصب فكل من يخالفهم أعلنوا مخالفته للإسلام، في مماهاة بينهم وبين الإسلام، ومن يصرح منهم بهذا لا يجد من إخوانه الإنكار، فما على وجه الأرض من يصح أن يقول إن ما يقوله هو الإسلام، وإن فهمه وحده هو الفهم الصحيح للإسلام، ومواطنوهم من غير المسلمين ملوا عدوانهم اللفظي عليهم، وادعاء أنهم يتآمرون عليهم، ومن وصل منهم إلى السلطة يهيأ له أن جميع من يعترضون على سياساته هم متآمرون عليه يكرهونه، وهو جاء إلى الحكم ولا مشروع له جاهز يحكم من خلاله، ولا برامج معلنة، ثم يدعى أن الناس قد تآمرواعليه، وأنه يعرف المتآمرين وأن بعضهم قد قبض عليه واعترف وأنه وأنه، إلا أن ذلك كله يذهب مع الريح ولا يثبت منه شيء ويقدم هؤلاء الإسلام في أسوأ صورة إذا كانوا يظنون أن ما يدفعهم لكل هذا هو الإسلام، فهم إذن يزعمون إسلامًا غير الإسلام الذي اعتنقه المسلمون منذ أربعة عشر قرنًا وأربعة وثلاثين عامًا، إن هذه الجماعات إن استمر أمرها على هذا المنوال، فستغيب عن الناس محاسن الإسلام وكله محاسن لمن علم حقيقته والتزم حكمه وقيمه وآدابه، وإذا ترك الناس كل هذا تساووا في السوء حتى من ادعى أنه عالم به داعٍ إليه، والإسلام باق بمحاسنه وسيذهب هؤلاء ويبقى العزّ له فهل يدركون هذا، هو ما نرجو والله ولي التوفيق،