حينما ألف الشيخ الجليل الدكتور مصطفى الشكعة كتابه «إسلام بلا مذاهب» ظن البعض أنه يدعو إلى التخلي عن المذاهب الإسلامية كلها، وكذا معتقدات الفرق الإسلامية المختلفة، وأن يعودوا إلى عهدهم الأول كما كانوا على عهد سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون أن يكون لهم مذاهب أو فرق ينتمون إليها، ولم يرد يقينًا شيخنا الجليل هذا،
فإهدار هذه الثروة العلمية الإسلامية لهذه المذاهب والفرق المتراكمة منذ ظهور الإسلام وحتى يومنا هذا لا يمكن أن يكون غايته ولا هو مما يسعى إليه، ولا يمكن لعاقل أن تكون هذه غايته، فلا أحد منا يعتقد أنه أقدر من بناة هذه الثروة العلمية الإسلامية، وهم صفوة عقول المسلمين على مر هذه العصور، وإلا كان مدعيًا لأمر هو غير مؤهل له، وإنما أراد أن يقرب بين أهل هذه المذاهب، ويوحدهم على المقاصد والغايات الكبرى لهذا الدين الحنيف، لا لصالح، مذهب من مذاهبهم أو فرقة من فرقهم، وإنما أن تجذبهم هذه المقاصد والغايات إلى وحدة هدف بينهم تقويهم في مواجهة الأخطار التي تواجههم، وتتيح الفرصة لتعاون بينهم به تقويهم، وتصد عنهم الأعداء، وتزدهر به الحياة، وهذه الفكرة دعا اليها من كل مذاهب وفرق المسلمين عقلاؤهم، ووجد لذلك أن الوسيلة المثلى لذلك هو التعايش بينهم، والذي ما وجد مبنيًا على أسس ثابتة إلا وغابت عنه الكراهية والبغضاء المورثة للعداء والاقتتال، ولو نجحت دعاوى التقارب هذه لاستطعنا أن نجمع المسلمين على كلمة سواء في كثير من قضاياهم الرئيسة، ذلك أن اتخاذ المذاهب الفقهية والعقائد الدينية والفكرية حصنًا منيعًا يتقوقع داخله أهله، ويعادون كل أحد خارجه، هو ما أضعف المسلمين على مرِّ عصورهم، وفي هذا التقوقع اعتقاد بصواب المذهب الذي هم عليه، وأنه وحده هو الحق، وما سواه مما عليه غيرهم من المسلمين هو الباطل ذاته، مثل ما صنع الخوارج الأوائل في عهد الخلافة الراشدة، وهو ما أضعفهم وجعلهم أقل فرق الإسلام تأثيرًا، وهذا ما يكمن الخطر فيه، لأن من اعتقد أنه وحده على الحق، استهان بغيره واعتبره غالبًا كافرًا، وهكذا صنع هؤلاء، فكل من خالفهم في البدء كفروه، ولما كان لكل واحد من البشر قدرات محدودة على إقناع غيره بما اجتهد فيه ورأى أنه حق، ما لم تدعمه حجج وبراهين ملجئة فكان مما يجب عليه أيضًا أن ينظر في آراء الآخرين واجتهاداتهم فلعل حججهم أقوى وأدلتهم أوفر، فما رأى فيه حقًا وافقهم عليه، وما رأى أنه باطل رده ولكن بالأسلوب الذي أرشده، إليه ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالجدال بالحسنى إن ناقضت أفكاره واجتهاداته، ذلك أن حب الناس في قالب واحد، وقسرهم على الاجتماع على رأي واحد هو المستحيل، ويبقى قبول الآخر، الذي لا يقتضى أن يتنازل عن معتقداته، ولكنه في ذات الوقت يفسح له المجال أن يصدع برأيه فيحترم ولا يجرم، ما دام داخل الدائرة الاسلامية، التي الاجتهاد فيها مسلك اساسي اعتبره الشارع الحكيم الوسيلة الأهم لاستنباط الاحكام من أدلتها الشرعية، بحسب اصول متفق عليها، رضيها أهل الملة لدينهم، واقرهم عليهم سيد رسل الله وخاتم أنبيائه حينما اجتهد صحابته، وهو حي بين اظهرهم فأقرهم على اجتهادهم، وقد تعارض، ففي الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه قال:قال النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم الأحزاب:(لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك البعض العصر في الطريق، فقال بعضهم:لا نصلي حتى يأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف أحداً منهم)، فأخذ بعض صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بظاهر اللفظ وبعضهم أخذ بالمعاني، وكلا الأمرين يحتمله اللفظ، فكان اجتهادهم سائغاً، فالاختلاف في الخلق طبعي، فطروا عليه من حيث تفاوتهم في القدرة على الإدراك والاستيعاب بما فضل الله بعضهم على بعض في العلم والفهم وسعة الاطلاع، ومحاولة الغاء كل اختلاف أمر مستحيل فالإسلام دين حي حكم الله له بالبقاء حتى قيام الساعة، فهو آخر رسالات الله إلى عباده بين يدي الساعة، فلا يظنن أحد أن باستطاعته أن يلغي تراثه في علومه المختلفة التي تكونت على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً، فالاختلاف باق ولا شك، ولكن ضبطه حتى لا يتحول إلى معارك لفظية ينتج عنها شحن النفوس بالعداء والكراهية، التي تتولد بين المختلفين، هو ما يجب أن نعمل له وندرأه عن الأمة ما استطعنا فهل نحن له فاعلون هو ما أرجو والله ولي التوفيق.