يتحدَّث البعض عن السخريَّة بأنَّها أحد فنون الأدب، ويزعم أنَّ أرقى الفنون الأدبيَّة هو الفن الساخر، والذي قد يجيده من البشر أفراد قلائل، ولكنَّهم حتمًا يتجنَّبون السخرية من البشر، سواء مسَّت السخرية مظاهرهم الجسديَّة أو ألوان حياتهم المعيشة، أو حتَّى أقوالهم، وإنَّما يوجِّهون السخرية لما هو غير مقبول من التصرُّفات، أو الأحوال، والتي يترتَّب عليها أضرار للأفراد، أو المجتمع، أمَّا أن تكون السخرية هي مدخل لانتقاص الخلق، وتوجيه الذم لهم، فهذا لا يقول عاقل إنه أدب، بل لعلَّه لسوء الأدب والخلق أقرب، ويكفي أنَّ ربنا -عزَّ وجلَّ- قال عنه في محكم كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)، والآيتان الكريمتان أدب راقٍ ألزم الله به مَن آمن به وبرسوله -صلى الله عليه وسلم- وحرَّم به السخرية من الغير، سواء صدرت من الفرد للفرد، أو كانت من الجماعة للجماعة، فهي من كبائر الذنوب التي يجب اجتنابها لما لها من الاثر السيئ على المجتمع، فكم قادت السخرية إلى بغضاء وكراهية بين الناس، وقد تبلغ حد الاقتتال بينهم، فمن يسخر منه علنًا لا يصبر على ذلك، إن كان بيده القدرة على الانتصاف ممَّن سخر منه فعل، وإلاَّ طوى صدره على بغضه وكراهيته حتَّى إذا سنحت له الفرصة أخذ منه حقه، وعندما تكون السخرية للجماعة فآثارها أسوأ بكثير، والخيريَّة قد تكون لمن سُخر منه، فهو عند الله أفضل وأكرم، ومَن سخِر منهم هو الأدنى الذي عند الله لا فضل له ولا كرامة، ويلحق الله بالسخرية المحرَّمة سوء الظن بالآخرين، فهو محرم وهو من كبائر الذنوب، التي تستوجب في كثير من الأحيان التقاطع والتدابر بين الناس، وقد يبلغ الأمر أن ينتقم بعضهم من بعض، فلا تقل عن إنسان إلاّ ما هو ثابت عنه، بل لا تحمل له في صدرك غلاً ولا بغضًا، أو كراهية دون سبب إلاَّ أنك لا تثق بالناس، أو يبلغ بك الغرور أن ترى الناس كلهم دونك، وتسيء الظن بهم إن قالوا قولاً حملته على أسوأ ما تحمل عليه الأقوال، وإن فعلوا فعلاً تأوَّلته بسوء ظنّك إلى ما يجعله سببًا لذمهم، ويلحق بذلك التجسس والتحسس، حيث تحاول ألاَّ يغيب عنك شيء ممَّا يفعلونه، أو يقولونه، وكأنك الرقيب عليهم، الذي أوكِلت إليه أمورهم، ثمَّ تحاول نشر ما تظن أنك عرفته للناس فتقع في الغيبة، وأنت تظن أنك تحسن صنعًا، ولا تعلم أنَّ فعلك هذا محرَّم شديد الحرمة، وعقابه عظيم، فقد روي عن سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: (يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)، ثم ألحق بذلك الغيبة والتي لا تكون إلاَّ لمن كان فيه عيب؛ لأن سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرَّفها لمَّا سُئل عنها، بأن تقول في أخيك ما يكره أن يشاع عنه، ولو كان فيه، وهي اليوم تشيع بين الخلق في المجالس، بل وفي الصحف وعلى القنوات الفضائيَّة، ولا يحد منها عظم الذنب المترتب عليها، ولا العقوبة الأخروية المنتظرة لارتكابها، وقد شبهها سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأكل لحم المغتاب ميتًا، لتنفير أمته منها، ومن ألوان السخرية أيضًا اللمز والهمز والتنابز بالألقاب، وكلها اليوم عادات لأقوام تجنَّبوا أدب الإسلام، وظنوا أنَّهم على الخير، وهم قد أهلكوا أنفسهم بما لا يعود عليهم بنفع، لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة، وما هي إلاَّ نصيحة صدرت عن قلب محب لإخوانه المسلمين، يتمنَّى لمجتعهم أن يطهر من هذه القبائح كلها؛ ليعيشوا طمأنينة وسكينة يبثها الله بينهم. فهل يقبلون؟ هو ما أرجو، والله عزَّ وجلَّ ولي التوفيق.