لأول مرة تحدّث الناس فيها عن الحاكمية كان ذلك عند بروز فرقة الخوارج بعد حادثة التحكيم بين جيشي سيدنا علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، بعد أن طالبوا به فلما استُجيب مَطلبهم نكصوا، وزعموا أن قبوله كفر، وأن الحكم لا يكون إلا لله، وهي كلمة حق أريد بها باطل، فربنا عز وجل قال على لسان نبيه: (قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ)، وإنما يحكم بما أنزل الله البشر، فلا حجة لهم في مثل هذه الآية ولا غيرها، فالله أنزل الكتب وأرسل الرسل ليحكم بين الناس بالقسط، وقد استحل الخوارج بهذه المقولة دماء وأموال وأعراض المسلمين، وأمر سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من عرفهم أن يقاتلهم ليردهم إلى الحق، ثم جاء الأستاذ أبوالأعلى المودودي ليطور هذه الدعوى في كتابه المصطلحات الأربعة، فينقلها إلى نظرية يتبناها من بعده كثيرون، ويظهر حينئذ مصطلح «توحيد الحاكمية» ثم جاء من بعده «سيد قطب» ليقتنص الفكرة ويطورها ويؤكد عليها في سائر كتبه خاصة «الظلال» و»معالم في الطريق» وتعرض فيها لجاهلية الحكم كما عبر عن ذلك في كثير من كتاباته، وأتم عمله أخوه «محمد قطب»، الذي نقل إلى شباب الصحوة في بلادنا تلك الأفكار ليتبنوها في كل ما يكتبون وما يلقون من محاضرات وخطب ومواعظ، وقد أشرف على بعضهم حين دراستهم للحصول على الدرجات العلمية العليا، حتى أنك تقرأ مثلاً رسالة في العقيدة يحصر الدارس فيها الحديث عن هذه الحاكمية، وتلك الجاهلية المزعومة، فلا تجد فيه سوى ما قاله «سيد قطب» في الظلال والمعالم، وما قاله أخوه في «جاهلية القرن العشرين»، وكأن قضايا العقيدة لا تستقى إلا منهما، وتطورت الفكرة إلى تسييس هذه الصحوة، حتى كادت أن تكون شعبة للإخوان المسلمين المصرية، والتي ظهرت ملامحها في التسعينات الهجرية، والتي تعددت رموزها، منها من زعم أن الأمة منذ قرون قد ذهلت عن دينها، ونسيت انتماءها في القرون الأخيرة، وكما فصل الغرب الدين عن السياسة، فالمسلمون بزعمهم فصلوا بين الإيمان والعمل، ويقول أحدهم مستشهداً بقول قديم: (إن المسلمين مختلفون في الكتاب، ومخالفون له، ومجمعون على مفارقته، يقولون على الله بغير علم، ويتكلمون بالمتشابه من الكلام)، وأخذوا يرسمون للعالم صورة مشوهة بائسة في الماضي والحاضر، لا تستبقى منه في بدائيته ولا تحضره ما يمكن أن يأنس به إنسان، ما لم يمر بما يعتقدون وما ظنوه الحق، ليستخرجوا بعد ذلك حركة ثورية كما يزعمون تغير كل شيء، وترسم صورة لحاكمية الله كما يتصورها هؤلاء، وأهم مبادئها العداء للجاهلية الحديثة، والتي يزعمون أنها عمت أرض المسلمين كلها، وردتهم إلى ما كان عليه العرب في الجاهلية وأوله الشرك، ويربطون حركتهم الثورية هذه بجهاد سيدي رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وصحبه الكرام رضوان الله عليهم، وما نالهم من الأذى، ويؤكدون أن ما يدعون إليه من الدين حسب وجهة نظرهم لا تتم إلا بقتال يمحو هذه المظاهر الجاهلية، كما محاها أولا جهاده وجهاد أصحابه، ويؤكدون أن دعوتهم حركة إيمانية تواجه واقعاً بشرياً، وتواجهه بوسائل متكافئة لوجوده الواقعي، الذي يزعمون أنه ضخماً، فهم بزعمهم يواجهون جاهلية اعتقادية تصورية تقوم عليها أنظمة واقعية عملية تسندها سلطات ذات قوى مادية، بإعلان ربوبية الله وحده للعالمين، ومعنى هذا الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع قائم في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر حكم بصورة من الصور» وبهذا النمط من التفكير وبهكذا عبارات امتلأت حينذاك الكتب والمطويات، وصدح بها الخطباء من فوق المنابر، ودعا الشباب للجهاد، وتدافع المراهقون إلى الالتحاق بالمقاتلين في كل صقع من هذه الدنيا فيه نزاع، ثم ظهر بعد ذلك حركة من نعتناهم بالفئة الضالة، وكم أتمنى اليوم أن تكون هنا دراسات جادة لما كتب ونشر في تلك الفترة خاصة الرسائل الجامعية، والتي أشرف عليها من إخواننا الأساتذة المنتمين إلى فكر الإخوان المسلمين خاصة منهم من انتموا إلى فكر «سيد قطب»، ومثل ما فتحنا الباب على مصراعيه فلنفتح الباب لدراسة آثارهم، لنقيم أثرها على شبابنا وانحرافاتهم التي ظهرت عليها من أجل مستقبل أرقى خالٍ من الأخطاء، فهل نفعل؟! هو ما أرجو. والله ولي التوفيق.
الوسومالصحوة
شاهد أيضاً
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …