لا أشك لحظة أن من الصداقات ما يثبت بالتجربة أن لا علاقة لها بالمبادئ والقيم والأخلاق النبيلة، وإنما يتصوّر فيها الأصدقاء أنهم قريبون من بعضهم، وهم يبعد أحدهم عن الآخر مثل بُعد السماء عن الأرض، وقد يكون كل منهم مثل الآخر، وقد يكون أحدهم مخدوعًا، فالصداقة الحقيقية التي تقود إلى إخاء ووفاء صادق في عالم الناس اليوم نادرة جدًّا، إن لم نقل إن وجودها كاد أن يكون مستحيلاً، لأننا أصبحنا نعيش حضارة مادية لا تُعنى بمثل هذا، والأدعياء في زماننا كثر لا يحصيهم العد، فالذين يدّعون الصداقة، ولا يعرفون كيف تبنى، وما هي حقوق الصديق على صديقه لو ذهبنا نحصيهم لعجزنا لكثرتهم، والغريب أننا في مجتمع كلنا ندّعي فيه المحافظة على الدّين وصونه، ولكن كثير منا لا يعرف قيمه وأحكامه، فمثلاً بين الأصدقاء يُغيِّب المرض الصديق، فينقطع عن رؤية أصدقائه لما يعانيه من الآلام، ولعدم قدرته مفارقة منزله وأحيانًا فراشه، فإذا مضت مدة قصيرة فإن مَن يدّعون صداقته لا يبحثون عنه، ولا يسألون عنه، وكأنّ أمره لا يهمهم، تلك القسوة لا تأتي إلاَّ من بعد عن الله، رغم ادّعاء البعض بأنه منه قريب، وكأنّهم لم يقرأوا قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست، قيل وما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمّته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه، وهذه حقوق المسلم على المسلم، فما بالك بالقريب المسلم، والصديق المسلم فحقهما فوق ذلك بكثير، فمن لم يفِ لهما فقد نُزع عنه رداء الإنسانية، وفيما يرويه سيدنا رسول الله عن ربه قال: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تزرني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده)، وكم من الناس اليوم مستغنٍ عن رحمة الله وعفوه، فلا يعود مريضًا -قريبًا كان أو صديقًا، أو جارًا- ومع ذلك يدّعي أنه قريب من الله، وسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا عاد المسلم أخاه لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع)، وقال: (مَن عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله ناداه منادٍ أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً)، وقد حرص سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حثّ المسلم على أن يعود أخاه المسلم -صديقًا كان أو قريبًا، أو جارًا- ذلك لعلمه بأثر هذه الزيارة على المريض، فهو يسعد بتواصل الناس معه، وينشط للقائهم، وتشعره هذه العيادة بحبّهم له، واهتمامهم بشأنه، وهي تزيد المحبة والمودة بين المريض ومَن يعودونه من أقربائه، وأصهاره، وأصدقائه، وجيرانه، وتوثق الروابط بينهم، وحتمًا مَن يعودونه يدعون الله له ممّا يساعده على الشفاء، ففي سنن أبي داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد مسلم يعود مريضًا لم يحضر أجله، فيقول سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلاَّ عوفي».
هذه قيم الإسلام وأخلاقه التي أخذت في زماننا تتوارى، وعيادة المرضى من قيم الإنسانية المثلى، ولهذا تجدها في أمثل صورة عند غير المسلمين حتى أنهم يتطوّعون لعيادة المرضى والتردّد عليهم لإيناسهم، والمسلمون يفقدون هذه المُثل رغم حث دينهم عليها، وكم نرى في هذا الزمان من مواقف بشعة لأقرباء وأصدقاء حميمين لا يزورون المرضى منهم، وينسونهم، وهم في ادّعائهم المثالية يعجز الآخرون عن مجاراتهم في ذلك، وهم لا يعلمون أن المرض، وإن كان يرونه محنة تصيب المريض وأهله، هو بالنسبة للتجربة الحية منحة لمن عرف الطريق إلى ربه، واقترب إليه بالطاعات حتى كان لا يرى سواه، ولا يأنس إلاّ به، ولا يعلمون ما يلهمه الله أثناء المريض حتى أنّه يكون في نعيم، وإن رآه الآخرون في محنة.
فليت الناس في زماننا يتعرّفون على ما يدّخره الله لعائد المريض من عظيم الثواب، فلا يتركون مريضًا قريبًا، أو جارًا، أو صهرًا، أو صديقًا إلاّ وكرروا زيارته وعادوه امتثالاً لما حثّهم عليه الدين، وما تفرضه قيم الإنسانية عليهم، أمّا أن يفقدوا الاثنتين معًا فتلك هي الكارثة، نرجو أن يعي أهل زماننا هذا، حتى إذا مرضوا عادهم غيرهم، ذاك ما نرجوه، والله ولي التوفيق.