رحم الله الشيخين إسحاق عزوز ومحمد متولي الشعراوي، كانا قدوة لكل من تلقى العلم عنهما أو عرفهما، فما أفاداه من العمل وقادهما إلى عمل هو نبراس لمن يطلبون الاقتداء بأهل الخير
الصداقة بين العلماء تبنى على حب في الله، وعلى معرفة تامة لحقوق المسلم على أخيه المسلم، تجمعهما المعرفة والتقوى التي هي أُس العلم، إذا كان يريد به طالبه ومحصله وجه الله تعالى، وكان لشيخنا المكي السيد إسحاق بن عقيل عزوز -رحمه الله- شغف بالعلم، ظهر عليه ذلك منذ أن بدأ بحفظ القرآن الكريم وحتى التحاقه بمدرسة الفلاح، وحتى تخرّجه فيها، ثم سفره إلى بوباي بالهند ضمن بعثه مكونة من عشرين متخرجًا في مدارس الفلاح بمكة المكرمة وجدة لدراسة العلوم الشرعية هناك، وحتى عاد إلى مكة، بعد أن تكونت شخصيته العلمية وأضاف إلى ذلك الدراسة في حلقات الدرس بمدرسة وجامعة المسجد الحرام، فأخذ العلم عن كافة علمائه الأعلام بدءًا بالشيخ أحمد ناضرين وأعلام العلم المكي كالشيخ عبدالله حمدوه، والشيخ محمد عيسى رواس، والشيخ محمد العربي التباني، والشيخ محمد يحيى أمان، وغيرهم كثيرون، فجمع بين التعليم النظامي الأكاديمي، والتعلم بثني الركب في ساحة العلم في حلقاته التي شعت بنور العلم في المسجد الحرام، وقد أتيح له -رحمه الله- أن يدرس في مدارس الفلاح، ثم درَّس فيها، ثم كان مديرًا لها، ثم وكيلاً لنائب رئيس المدارس الفلاحية، ثم مشرفًا عليها في مكة وجدة، وكان له الفضل في بناء مقر لمدرسة الفلاح بالشبيكة، ثم مقرًا لمدارسها في المراحل الثلاث «الابتدائية والموسطة والثانوية» بساحة إسلام، ألف الكتب المدرسية والكتب في العقيدة والتراجم والسيرة النبوية، وفي الحديث، وفي الأصول، وكان -رحمه الله- خفيف الروح، متوقد الذهن، وهو الصديق الأول، وصديقه الآخر شيخنا الأزهري الإمام محمد متولى الشعراوي -رحمه الله-، الذي لا يجهل قيمته العلمية أحد فهو أشهر مفسري القرآن الكريم في العصر الحديث، الذي شغفه العلم حبًا منذ صغره، نبغ في الكتاّب ثم التحق بالمعهد الابتدائي الأزهري حيث بلغ نبوغه حدًا لفت الأنظار إليه، واعتلى المنابر خطيبًا، وبدأ قرض الشعر ثم توالى ترقيه في المراحل الدراسة الأزهرية حتى التحق بكلية اللغة العربية بالأزهر حيث تخرّج فيها بتفوق حيث حصل على العالية مع إجازة التدريس منها، وقد اشترك بالحركة الوطنية والأزهرية أثناء دراسته، عمل بالتدريس بالأزهر، ثم انتقل إلى المملكة واشتهر بنبوغه -رحمه الله-، ودرّس علومًا ليست من تخصصه كالعقائد، فبرز في ذلك ولقي استحسان الجميع، لكنه عاد في عام 1963م إلى مصر، إلا أنه لقى بعض المضايقات فانتقل إلى الجزائر رئيساً لبعثة الأزهر هناك ولبث هناك حتى عام 1967م ثم عاد إلى الأزهر بعد أن ذاع صيته كداعية تصغى له الجماهير، وقد عمل في السعودية مدة طويلة ذات تأثير من عام 1950 ليعمل في المعهد العلمي السعودي ومدرسة تحضير البعثات بمكة، وحتى عام 1963، وكان له في هذه الفترة الثرية الكثير من التلاميذ في المعهدين ثم في كليتي الشريعة واللغة فيما بعد، وكانتا التعليم الجامعي الوحيد في هذا الوطن، وكنت ممن استفاد من علمه في تلك الفترة وتوثقت صلتي به، وهذه الفترة عقدت بينه وبين علماء الحرم المكي الشريف الذي أفدنا كثيرًا من العلم من حلقات درسهم صلة ظلت دائمة حتى لقوا الله -رحمهم الله جميعًا-، ومنهم صديقه الحميم الشيخ الجليل القدر الذي بدأنا بذكره هذا المقال وهو الشيخ إسحاق عزوز، وظلت الصلة بينهما قائمة إن كانا بمكة فاللقاء بينهما يوميًا يتم وكل منهما دائم الشوق إلى صاحبه، وإذا اقتضى الظرف أن يوجدا في مصر استمر اللقاء، جمع بينهما حبٌ لله ورسوله -صلى الله عليه وآله سلم- وحبٌ للعلم النافع أفضل العلوم علم الشريعة، وزكت الصلة بينهما عن الأغراض المولدة للأمراض، وكم لقاء وبينهما كان يفوح بعطر المحبة وأريج الوفاء، وكانا -رحمهما الله- خفيفي الظل، تعلو محيّاهما أبدًا ابتسامة الرضا، يمزحان ولا يقولان إلا حقًا، وكانت مجالسهما إذا اجتمعا مجالس علم وهدى، وتسري فيها روح المحبة والمودة، التي أمر الله أن تكون بين عباده، في هذه المجالس الفوائد العلمية الرائقة، والعبارات الجميلة التي تشع في النفوس الطمأنينة، وكان كثيرٌ منّا حينذاك يتمنى أن تكون صلته بإخوانه وزملائه على منوال هذه الصلة بينهما، فصلة المحبين في الله تتميز بدوامها، واستعصاء على التفريق بين المتحابين بسببه، وتجارب الحياة تثبت ذلك، أما الاجتماع على مصالح دنيوية خاصة إذا كان بعضها مشبوهًا، وما أكثرها في حياة الناس في زماننا فإنما تؤدي في الغالب في النهاية إلى تعادٍ بين من جمعتهم إن لم نقل أن يكره بعضهم بعضًا، ولهذا في حياة الناس تجارب يراها العقلاء كل يوم، رحم الله الشيخين كانا قدوة لكل من تلقى العلم عنهما أوعرفهما وجالسهما، فما أفاداه من العمل وقادهما إلى عمل هو نبراس لمن يطلبون الاقتداء بأهل الخير الصالحين، فاللهم ارحمهما وأسكنهما الفردوس الأعلى من الجنة.