لقد ارتقى إلى العلم الديني البعض ممّن ليسوا له أهلاً، فلا تعف ألسنتهم عن سباب مَن يخالفهم، واتّهامه بكل نقيصة إن لم يدّعوا أنه ابتدع أو فسق..!
يقول سادتنا العلماء إن علم الدين، هو العلم النافع حقيقة، ذلك أن مَن حصله، وبلغ فيه أقصى المدى، استطاع من خلاله أن يعرف ما ينفعه وينفع الآخرين في الدنيا والآخرة، وبه يحصل منافع الدنيا والدين، وعن طريقه سيعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وسيعمل لآخرته كأنه ميت غدًا، لا تصرفه دنياه عن العمل لآخرته، ولن يشغله العمل لآخرته ألا يعمل لدنياه، ليكون فيها عزيزًا كريمًا، لا تذله الحاجة، ولا تجعله عبدًا لمن أحسن إليه بشيء من رياشها وزخرفها، ذلك أن من عرف علم الدين حقيقة ترفع عن الدنايا فلا يقربها أبدًا، وعرف الفضائل فكانت له سمة يعرف بها، تراه دومًا قريبًا من الخلق يحب لهم ما يحب لنفسه، فهو دومًا ساعٍ إلى خيرهم ما أمكنه ذلك، يعلم أنهم إن اتبعوا الحق سلكوا الطريق إلى الخير الدائم، الذي يجعل منهم أخوة متحابين، لا تعرف البغضاء طريقًا إلى قلوبهم، فهم مجتمعون على الخير الذي ينفعهم جميعًا، وينفرون من الشر الذي يضرهم جميعًا، فليس من الخلق الحسن شيء في التعامل بين الناس إلاّ ومصدره حقيقة وواقعًا العلم الذي مصدره كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وما بعث إلاّ ليتم لنا مكارم الأخلاق، والذي حباه الله بأن يكون بنا رؤوفًا رحيمًا، وكل من اتبع الهدى الذي جاء به، ورغب أن يكون داعية إليه، فلابد وأن يقتدي به، فينظر في سيرته، صلاة الله وسلامه عليه، فيجد من الفضائل ما أصبحت خلقًا له إلاّ وانقاد الخلق إليه، واطمأنوا إلى ما يدعوهم إليه، وهكذا كان علماء الدين في عصور المسلمين كلها إلاَّ مَن قل منهم ممّن انحرفوا عن الاتباع والاقتداء، كانوا هم النجوم التي يقتدى بها الناس في حسن الخلق، ورأينا منهم نحن مَن تأخر زماننا نفرًا كانوا في مجتمعنا المكي نجومًا مضيئة تلقينا عنهم العلم، فكانوا لنا القدوة في حسن الخلق، حتى بلغ جلهم القمة في الفضائل، يرعون الله في كل ما يقولون، لا يأمرون إلاّ بمعروف علم من الدين بالضرورة أنه معروف أوجبه الله أو ندب العباد إليه، ولا ينهون إلاّ عن أمر علموا أن الله قد حرمه قطعًا، أمرهم بالمعروف معروفًا في ذاته، ونهيهم عن المنكر لا يتسرب إليه المنكر لا في أسلوب ولا قول، لذا كان إقبالنا على دروسهم إقبالًا لا حدود له، لم نشهد في مجالسهم ولا كانوا يرضون عنه أن يغتاب أحدًا من الناس قل شأنه أو عظم، يكرهون المعصية، ويغضبون لله إن علموا أن أحدًا ممّن يرتادون مجالس العلم بين أيديهم مقيم عليها، ولو كانت له المكانة الأسمى بالناس لمنصب أو مال أو جاه، فكان إقبالنا على دروسهم، ومجالسهم رغبة حقيقية في اكتساب العلم الديني المؤدي حتمًا إلى حسن الخلق، وخيرنا من اكتسب مع العلم منهم حسن الخلق، ومضوا إلى ربهم وهم لم يحملوا قط ضغينة لأحد، حتى وإن اختلفوا معه، كانوا عند الاختلاف هم السادة الفضلاء، لا يذكر أحدهم مخالفة إلا وأجله وأثنى عليه بما هو أهل له، وقدم قوله وحجته، ثم اتبع ذلك بسط قوله وأدلته عليه، لا تسمع منه لفظًا يسيء إلى من يخالفه الرأي، فكانوا مدارس في الفقه مختلفة، بل وفي العقائد مناهج علمية يختلف الناس عليها، إلا أنهم لا يقولون لمن اختلفوا معهم إلاّ أنهم السادة تكريمًا لهم، فكان الدرس في الفقه مثلًا يقول العالم الحنفي المذهب، وللسادة الشافعية ما يخالف قولنا ودليله على ما يقول كذا، وظل هذا سائدًا حتى ارتقى إلى العلم الديني البعض ممّن ليسوا له أهلًا، فزعموا العلم به، وهم لا تعف ألسنتهم عن سباب من يخالفهم الرأي، يتهمونه بكل نقيصة، إن لم يدّعوا أنه ابتدع أو فسق أو ما شابه هذا، وتسمع منهم في دروسهم وعلى المنابر ألفاظًا لو قيلت في أزمان مضت في القرون الأولى، لعوقب المتلفظ بها عقوبة القاذف فجُلد وشُهّر به، ولا يتحرزون من اتهام للخلق الذين يختلفون معه بما ليس فيهم، وما لا يستطيعون إقامة البينة عليه، ولو أننا واجهنا هؤلاء بالحق حين ظهورهم لما تمادوا في فعلهم القبيح، ثم نقلوه إلى أتباع لهم نهجوا اليوم نهجهم وأخذوا يتكاثرون، حتى ضجت منهم المنابر وكره الناس حضور مجالسهم، فهل نفعل اليوم بعد أن استفحل الأمر هو ما أدعو إليه العلماء والجهات الرسمية الدينية فهل هم فاعلون، هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.