الفتوى التي تعنى أن يبيَّن العالم الحكم الشرعي في الوقائع التي تُعرض عليه، خاصة فيما يستجد منها، ذلك أن بيان حكم ما هو معلوم من الدين بالضرورة، المستقر حكمه والواضح دليله لا يسمى فتوى، ويُسأل عنه الفقيه ويجيب حسب علمه ومذهبه، أما ما يقتضي البحث والاجتهاد فهذا هو الذي يستلزم الفتوى، ولا يكون إلا من عالمٍ بلغ رتبة الاجتهاد، وقلَّ من بلغها في هذا الزمان، والإفتاء مهمة ثقيلة وعسيرة، لا يتأهل لها العالم إلا بعد ممارسة علمية طويلة، ولكنها في عصرنا هذا كادت أن تكون مهمة من لا حرفة له، يتجرأ عليها الجميع، دون خشية من الله، وتجد من يطلق العنان لنفسه أن يقول على الله بلا علمٍ في كل العلوم الشرعيَّة، وهو لم يطَّلع مجرد الاطلاع على أيٍ منها، ولا نقول إنه تعلمها وأجادها ومارس تعليمها، فمن ثمَّ كان له مخزون علمٍ فيها ولو كان قليلاً، وهو أمر خطير جدًا على من تصدى له، وخطير على الأمة والمجتمع الذي يعيش فيه هذا المتجرِّئ على القول في دين الله بلا علم، حتى ولو كان له علم غزير فيما سوى العلوم الشرعية، وهو ما نراه اليوم وللأسف يمثل ظاهرة أساءت إلى الدين والدنيا معًا، فعلم المواريث مثلاً علم دقيق قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى أبوهريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة تعلموا الفرائض وعلموها فإنه نصف العلم وهو يُنسى وهو أول شيء ينتزع من أمتي)، لذا اهتم به علماء الأمة، ومقادير الإرث فيه ثابتة بنصوص قطعية في سورة النساء في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ…}، إلى قوله تعالى: {… فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ۚ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}، وهما الآيتان 11، 12 من سورة النساء، يتلوها آية الكلالة رقم 176 وهي قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ…}الآية، فهذه ثلاث آيات اشتملت على أنصبة الوارثين، لم يترك الله عزوجل قسمتها لنبي أو رسول، وإنما قسمها بنص كتابه، حتى لا يأتي في آخر الزمان من يظن لجهله أنه يمكنه التشريع كما شرَّع الله، فيلغي نصيبًا أو يثبت آخر، وقد مضى على هذه القسمة 1438 عامًا، والمسلمون لا يتجرأ أحد منهم على أن ينصِّب نفسه مشرعًا فيضيف إلى العلم ما شاء ويغيِّر فيه كما شاء، وربنا عزوجل يقول بعد هذه الآيات: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، كما يقول في آية أخرى: {… وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وربنا عزوجل يقول في آية عظيمة من كتابه الكريم: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، فيضمنها أربع محرمات هي أصول المحرمات في الشريعة، حتى إن الآية سميت بآية المحرمات الأربع، التي فيها أصول المحرمات وأظلم الظلم، فقد ذكر ربنا فيها أربعة محرمات بدأ بأيسرها على عظيم الجرم فيها وهو فعل الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ثم أتبعها بعظيم لكنه أعظم من الأولى وأشد وهو الإثم والبغي على الغير، لأن المرء إذا اعتدى على غيره فإنه يتعلق به حق الغير من العباد، وحقوق العباد مبنية على المشاحة بخلاف حقوق الله عزوجل فإنها مبنية على المسامحة، والله غفور رحيم، ثم ذكر السبب الثالث من أسباب الظلم وهو الشرك بالله عزوجل وهو أعظم من الذنبين السابقين، ثم ختم الآية بأعظم الذنوب إثمًا وأشدها حرمًا وهو القول على الله بغير علم، ويقول العلماء: إن هذه الأمور الأربع تختص بأمور ليست كغيرها من المحرمات، فأول هذه الخصائص المتعلقة بها: أن الشرائع كلها قد اتفقت على تحريمها، وما عدا ذلك فالشرائع مختلفة في إباحة شيء دون غيره، والأمر الثاني: أن هذه المحرمات الأربع وأشدها القول على الله بغير علم كلها من الشر المحض الذي لا مصلحة فيه، فلا يدري فيه تقدير الأصلح في حال دون حال، وإنما هي من الشر المحض، والخصيصة الثالثة فتقول: أما هذه المحرمات في كل حال تحرم مطلقًا فلا تجوز عند ضرورة، وإنما هي محرمة في كل حال، وأشدها حرمة وإثمًا هو القول على الله بلا علم الوارد فيه من الأدلة الكثير وجلها قطعي الورود والدلالة كقوله تعالى عن هذه الأربع: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}، وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقوله تعالى: {… فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، فما أعظم جرم من تصدى للقول في الدين بلا علم مهما كانت مكانته أو منصبه، ولعل من يخطئ في حق الله عز وجل -الذي لا ينازعه أحد إلا قصمه- يرجع عن ذلك فذاك خير له من التمادي في الباطل، فهل يفعل؟!، هو ما نرجو والله ولي التوفيق.