لا بد أن يعي الناس أن التدين حالة خاصة بين العبد وربه لا تؤهله لأعمال يكتسب في مجالها مالاً لا يستحقه
لا مسلم يشك في أن أعلى أنواع التجارة هي التجارة مع الله، تجارة سلعتها الطاعات وثمنها الحسنات يضاعفن من حسنة إلى عشر إلى سبعمائة وأكثر، والذين يجيدون هذه التجارة الرابحة هم من عرفوا الله فخشوه، فرقّت له قلوبهم، ودمعت عيونهم من خشيته، لم تنقطع صلتهم به قط، ما بينهم وبينه دائمًا عامر، همهم الأول والأخير رضاه، لذا تطمئن قلوبهم بذكره وتحيا نفوسهم بالأنس به في ظلمات الليل، ألسنتهم رطبة بذكره، مما ولد في قلوبهم الرحمة بخلق الله، وصدق العامة حينما قالوا: من خشي الله لا تخف منه، فمن يخاف ربه لا يظلم عباده، لكن هذا السلوك ليس هو دائمًا ما نراه في مجتمعاتنا المسلمة، فقد وجدنا فيها من يلبس الدين ويدعيه ليتجر به ويحقق من وراء إظهار تدينه ربحًا دنيويًا (ماديًا)، فرأينا اليوم من يبيعون الأدعية، عبر وسيلة تقنية حديثة هي الاتصالات، تطلب رقما هاتفيًا لتسجلها، وكذا المواعظ، فإذا تجاوزنا موضوع الأدعية والدروس والمواعظ، وجدنا أيضًا من يشتغلون على المصنفات الدينية، خاصة منها ما أعيد طبعه وتحقيقه من قبل عدة مرات، فيأتي من يدعي أنها لم تحقق، ويتهم من حققوه قبله أنهم إنما أرادوا التجارة، فالكتاب الذي تداوله الناس ما يزيد عن نصف قرن وأعيد طبعه مرات في مجلد واحد، إذا به يعيد إصداره في ثلاثة مجلدات أو أربعة أو أكثر، وتراجع الإصدار القديم والجديد، فلا تجد في الجديد سوى ورق صقيل وحرف أكبر، وتعليقات لا تضيف إلى النص جديدًا، ولا تصلح أخطاء وقعت في الإصدار القديم، إلا إذا كان في الأمر اختلاف بين مذهب المحقق الجديد ومصنف الكتاب، فستقرأ صفحات في الرد عليه، ولو كان هذا المصنف من أكابر علماء الأمة وأكثرهم علمًا، وهذا المحقق إذا قارنته به، علمت أنه ليس من رجال نقده، وهو الأدنى في أول سلم تلقي العلم، حتى وإن حصل على شهادة منحته لقبًا علميًا، وهذا الذي يسعى وراء المناصب ليستزيد من الدنيا ورياشها، والمناصب الدينية كانت لا تمنح إلا للعلماء الأكفاء، الذين يلتمس فيهم التقى والورع، وكان كثير منهم يرفض المناصب حتى ولو أجبروا عليها بالحبس والجلد، ومن ولي منهم المنصب أقام من نفسه العادل المنصف، الذي لا يقدم على ظلم.
وصور التجارة بالدين تتلاحق، ففي مجال النشر وطباعة الكتب بلغت أقصى مدى لها في هذا العصر، وقد ذكرنا أعظمها ونضيف ما يقوم به البعض ممن يدعون التحقيق أو مكاتب النشر إلى تجزئة الكتب وإصدارها تحت عناوين جديدة للتخلص مما لا يرتضونه مما كتبه المصنف، بل نجد في الكتب المصادر أو ما قد نطلق عليه الموسوعية كفتح الباري من يعمد إلى إسقاط عبارات أو أسطر منها، لا يتفق مع المصنف فيها، وتغمر سوق النشر رسائل تطبع وتوزع على أوسع نطاق إذا لم يتح له أن يسقط شيئًا منها ما لا يتفق معه يهاجم فيها المصنف ويدعي أنه وقع في أخطاء عقدية، أو أنه يمثل فرقة ما، ولنا هنا أن نشير إلى صورة أخرى للتجارة بالدين، فبعض من يظهرون التدين، يشتغلون بأشياء كثيرة ليسوا مؤهلين لها، فهذا يسمي نفسه محاميًا، وهو لا يعرف عن المحاماة شيئًا مستغلا ألا نظام للتوكيل أمام المحاكم، فيجمع توكيلات من الكثيرين الذين لا يحسنون المواجهة أمام القضاة، وقد يجلب لهم من الأحكام ما يوقع الضرر البالغ بهم، وهذا يعلن نفسه وسيطًا ليجمع بين الرؤوس في الحلال، فيقيم مكتبًا للزواج، وآخر عيادة للرقية يشترط فيها على نفسه أن يشفي من كل الأمراض حتى ما كان أخطرها كالسرطان، ويوحي للمرضى النفسيين أن سبب أمراضهم السحر والجان، ويمضي المريض زمانًا متعرضًا لأخطار كثيرة، وكل هذه الأنشطة ليس هناك نظام يضبط حركتها، ولا يمنح أصحابها تراخيص لها شروط يجب أن تتوافر، وهو أمر غريب يجب أن نتلافاه، فلا يترك الناس حسب أهوائهم أن ينشئوا من الأنشطة ما يرغبون، وأن نحمي الناس من أخطار يتعرضون لها كل يوم، ولا بد أن يعي الناس أن التدين حالة خاصة بين العبد وربه لا تؤهله لأعمال يكتسب في مجالها ما لا يستحقه، ولا يمنعها التعاطف الطبيعي مع المتدينين أو المدعين له، من أن نصوب أعمالهم وفق الشرع وبعيدًا عن الأوهام أو الادعاء الضار، فهل نفعل، هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.