التغيير مطلب في الحياة الإنسانية مشروع، تحتاجه كل المجتمعات البشرية لتجديد الحياة، فالجمود موت ولا شك يناقض الحياة، ولذا كان الإيمان بهذا الدين مطلبًا في حين ساد الظلام، وكان التغيير الذي مثله خدمة للحياة والأحياء، لذا قال ربنا عز وجل في محكم كتابه: (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)، فالتغيير له عوامل ومتطلبات لابد وأن تنبع من النفوس البشرية، فكل تغيير يفرض دون اقتناع منهم يفشل ولا شك، مهما كان هذا التغيير يقود إلى الأفضل أو الأدنى، فقد يعارض الناس تغييرًا هو الأفضل لهم، لأنه لم يراعِ واقعهم ولم يقتنعوا به، وحينما يحدث تغيير مفاجئ مدفوع إليه من فئة من الناس عملت له، وعاونها على ذلك جهود أجنبية متلاحقة، كما حدث في التغيير الربيعي المزعوم في بعض أقطارنا العربية لم تستمر طويلاً، فقد ظهر للعقلاء أنه ليس التغيير المطلوب الذي تسعى إليه الشعوب، التي قيل إن ثورات التغيير هي ثورتها، ذلك أن هذه الشعوب ما كانت لترضى أن يُزاح استبداد لا يزعم أنه جاء بسلطان الله يحكم به الأرض، ليحل محله استبداد يزعم أنه يحكم بسلطان الله، ويقيم شرعه على الأرض، فإذا ظلم جيّر ظلمه لله الذي لا يرضى الظلم، فمن سمّوا أنفسهم التيار الإسلامي، وسمّاهم الناس أحزب الإسلام السياسي، وحاشا الإسلام أن يكون مجزأ سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وهو دين بعث الله به سيد الخلق وإمام الرسل وخاتم الأنبياء سيدنا رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، والذي هو منهج حياة متكامل يعرف به من يطبقه في أي مجتمع كان، وما جاءنا البلاء إلاّ من مثل هذه التقسيمات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وتزعّم الخطاب بها فئتان إحداهما تتاجر بدينها ولا تخشى ربها، والثانية عندها الرغبة الآثمة في التخلّص من منهج الله كله، دخلت هذه الفئة المستخدمة للدِّين لتحقيق أغراضها، للوصول إلى الحكم لتمارس استبدادًا أعظم باسم الدين، وقد جرب الناس مواقفها غير الإنسانية من قبل، وسمعت على ألسنة بعض قادتها ما يشير إلى أنها ما أن تستلم الحكم حتى تحاسب كل بريء لما تراه في عرفها معصية، وما تستعد له من هدم أسس الدولة لتبني على أنقاضها الدولة الإسلامية المزعومة، متناسية أن الهدم سهل جدًّا، أمّا البناء فقد يستغرق زمنًا طويلاً، ثم قد لا ينجح فيضطر من هدم، إلى هدم ما بني، وقد مر عالمنا العربي والمسلم بتجارب هدم وبناء تكرر في القرون الثلاثة الأخيرة، فلم يثبت بناء قط؛ لأنه بني على أسس واهية، والمعلوم أن التغيير نحو الأفضل لا يقتضي هدم أركان الدولة كلها، وإسقاط كل مؤسساتها؛ لأن هذا -ولا شك- يعرّضها للفوضى المقصودة التي سمّاها مَن خططوا لها (الفوضى الخلاّقة)، وهم يدركون أن الفوضى لا تخلق سوى فوضى أشد، تؤدّي إلى سقوط جميع أركان الدولة القائمة، لتتمزّق إلى أجزاء مضطربة، يمكن حينئذٍ التحكّم فيها والسيطرة عليها لمن أشاع هذه الفوضى، وسعى إلى إيجادها، وحتمًا لا يمكن لأي مواطن يعشق وطنه، ويخلص العمل له أن يوافق على مثل هذا أبدًا، وإنما يسعى إليه من علاقتهم بالوطن علاقة منفعة فقط، فإذا تحققت لهم المنافع بهدمه كان الأشد مشاركة فيه، لذا وجدنا أن كثيرًا ممّن سمّاهم الإعلام نشطاء، والذين ظهروا فجأة أثناء أحداث ما سمّاه الغرب الربيع العربي، وما تخللها من فوضى عارمة سادت بعض أقطارنا حتى غابت مؤسسات الدولة تمامًا، وحلّ محلها ميلشيات إرهابية، سواء تسمّت باسم ديني، أو باسم غيره فالنتيجة واحدة، سقوط الدولة، وفقد الأمن، وانتشار كل الجرائم بمختلف أنواعها، وليتدفق إلى تلك البلاد السلاح من كل صوب حتى لا يمكن لأحد أن يعرف مصدره.
وهذا كله -ولا شك- تدمير لا تغيير، القصد منه إضعاف أمتنا، بل القضاء عليها حتى لا تقوم لها قائمة، فلا يزال الغرب يرى فيها منافسًا له حتى وهي في أشد أدوار حياتها ضعفًا وفرقة، وكأنه يقول: لا بقاء لحضارتي إلاّ بالقضاء على كل وجود منظم للمسلمين في كل مكان في هذا العالم، فأنت لن تجد وطنًا مسلمًا إلاّ وهو يعاني في علاقته مع الغرب من مشكلات لا عدّ لها ولا حصر، جلّها مصدرها أوهام الغرب، لا حقائق وجودها على الأرض.
ولو كان الغرب صادقًا في أنه يريد الإصلاح في الدول العربية والمسلمة، ولنقلها إلى الوضع الأفضل، وأن تسود الديمقراطية فيها لتركت لشعوبها أن تحقق ذلك مع تشجيعها على ذلك، دون أن تتدخل في شؤونها، فما تدخلت في شؤون بلد من بلداننا، وتحقق له التغيير إلى الأفضل أبدًا، والصورة واضحة لكل متتبع لشؤون هذا الشرق المنكوب ببعض أهله ممّن يتبنون العنف وسيلة لإقناع الناس بمنهجهم الشرير، وبتدخل الأجنبي الذي يسعى لتدميره ليكون خاضعًا لسيطرته.
والذين لا يزالون مغيبين عن هذا الوضع المتردي في أوطاننا اليوم بسبب السعي لهدم دولنا وتفتيتها وإخضاعها لتخضع للغرب كليًّا هم فقط أصحاب مصالح ذاتية، لا يعنيهم بقاء هذه الأمة، ولا بقاء ثقافتها، ولا صون دينها، وإنما أن يحققوا المصالح التي يسعون إليها، ويضحون بالوطن في سبيلها، فهل ندرك هذا؟ هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.