الحكمُ الشرعيُّ الثابتُ بدليلٍ، حتَّى ولو كان هذا الدليل، كما يُوصف في علمي الأصول -أصول الفقه، ومصطلح الحديث- بالأحادي، وليس المتواتر، هو حكمٌ شرعيٌّ له الثبوتُ في فقه الإسلام، لا يتجاوزه عاقلٌ إلاَّ أنْ يأتي فيه بدليلٍ أقوى، والاجتهادُ المطلوبُ في هذه الحالة، يعرفه أهلُ العلم بالشريعة، لا أولئك المتطفِّلون على موائده، وهم قد عُرُّوا عن علمٍ راسخ بها، فهؤلاء لا قيمة لما يقولون، وإن ارتفعت أصواتهم، فالمعلوم بداهةً لمَن يعلم هذا العلم، أنَّ ما ثبت في الفروع في الفقه غالبه بأحاديث الأحكام الأحاديَّة، وأدلة أخرى ترجع إلى قواعد ومقاصد شرعيَّة، بل وأدلَّة عرفيَّة، وأخرى لها تعلُّق بالعادة، وهذا التراثُ الضخمُ من الفقه، الذي أمضى السابقون من علماء الأمة الجهدَ في تكوينه، إنَّما اهتدُوا فيه بنور النبوَّة، وخاضُوا في كلِّ ما يؤدِّي إلى استنباط حكم يحقق للعباد مصالحَ، وللدين أخرَى، وإطراح كلِّ هذا لا يقول به عاقل، وإنَّما يهذي به مجانين في عصرنا، لا علم لهم بشرعٍ، وليسوا -حتمًا- ممَّن يعرفون دلائل العقل، وإنَّما هم قوم يزيِّفون ما يريدون به أن يستبدلوا الأدنى بما هو خير وأبقى، وتلك عادات أراذل من الناس، الذين لا يعون علمًا، ولا يستخدمُون عقلاً، فإذا تركنا -كما يدعوننا- الفقهَ الذي تركه لنا الأفذاذُ من علماء الأمَّة، فإلى مَن نسعى لينظِّمَ لنا حياتنا، أنأخذُ بقوانين الأمم من حولنا، ونترك قانوننا الذي أمضى الأقدمون من علمائنا القرون في تشييده؟ إنَّها -واللهِ- لكارثةُ قومٍ لا يدركُون الفرقَ بين الجوهر والحجر، وهم سادرون في غيِّهم، لا يدركُون من علمِ أوائلهم شيئًا، ولا مِن علم القوم في الغرب شيئًا، فقد اختارت بعض دول الغرب أن تستشرفَ فقه المالكيَّة حين أرادت وضع قوانينها، وهم يريدوننا أنْ نلقيه في البحر، ونأخذ من قوانين الأمم ثوبًا مرقَّعًا لا صلة له بقرآن، ولا سُنَّة، ولا إجماع، ولا اجتهاد، وإنَّما نقل عن الغير بلا وعي، سواء أكان ملائمًا لأوضاعنا، أم هو مصادم لها، ذلك أنَّهم في علم وضع القوانين خلو عقولهم، لم يمارسوه قط، ولا عرفوا الطريق إليه، هم قوم هرفوا بما لم يعرفوا، وأشاعوا في هذا الزمان لا أقول دعوات جهل، بل هي دعوات ردى سترديهم ومَن سيتبعونهم في مهاوي الضلال، وهم لا يدركون أنَّهم قد ضلُّوا، لقد بنت الأمة في مجال القوانين خزانةً ضخمةً لم تبنها أمَّةٌ قبلها، حتَّى أنَّ الأمم من حولها أطلُّوا على خزائنها، واستفرغوا منها كلَّ مَا ناسب واقعهم، فاستضافوه إلى قوانينهم، وهؤلاء يريدون منا أن نرمي تلك الخزائن المملوءة خيرًا كثيرًا في البحر، أو أنْ ندفنها في الصحراء؛ بسبب عقولهم القاحلة التي لم تستنبت معرفةً قانونيَّةً قط، ولا عرفت الطريقَ إلى كليَّاتها التي ترجع إليها، وإنَّما هم قومٌ يردُّون ما تصوَّروا أنَّه الماء، وما هو إلاَّ سرابٌ بقيعانٍ لا ماءَ فيهَا ولا نبت، إنَّهم عُرّوا عن كلِّ المعارفِ حينما وردوا صحراءَ جرداءَ لا شيءَ فيها يعينُ على الحياة، فإذا هم يتخبَّطُون في رمالها، ويكادُون أن يموتوا ظمأً، وهم تركوا وراءهم مواردَ الماء عذبًا.
ألم يعلموا أنَّ أمَّةً عاشت ما يقلُّ عن خمسة عشر قرنًا، ولكنَّها تركت تراثًا في كلِّ العلوم، لم تتركه أمَّةٌ ادَّعت أنَّها في الحضارة عاشت آلاف السنين، إنَّها أمَّةُ سيدنا محمدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلم- لتكونَ خيرَ أمَّةٍ أُخْرِجتْ للنَّاسِ، تهديهم إلى الخيرِ والحقِّ، في آخر الزمان، وتحميهم من التردِّي في عاداتٍ اتُّخذت قيمًا، وهي قد دمَّرت الإنسانيَّة، فجعلت الآثامَ حضارةً، والجرائمَ استعمارًا حينًا، وحينًا آخرَ جهادًا، والزَّواج بين المتماثلين جنسًا غايةً لتقطعَ دابرَ الإنسانيَّة على وجه الأرض، قومي -عفا الله عنكم- لا خيرَ في ثوبٍ مستعارٍ مهما كان له بريق، يخطف الأبصارَ حينًا، إلاَّ أنَّه لن يسترَ عورةً، ولن يخفي عيبًا، إنَّ المستعارَ لا يكونُ محلَّ الأصيلِ أبدًا إنْ كنتم ترغبون في حضارة تُبنى على أسس قويمة راسخة الجذور في مجتمعاتكم، فاستبدلوا الذي هو خير بالأدنى -يرحمكم الله-.