إن أمة العرب تميزت منذ جاهليتها بمزايا أهمها إعجابها بفضائل الأخلاق، ولعل اختيارها كأمة لتنزل في ساحتها خاتمة الرسالات الإلهية، ويبعث إليها النبي الخاتم، إمام الرسل سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يعلم حيث يجعل رسالته، فهي أمة تميزت بصفاء النفس والروح، واعتبرت أن الرجولة كامنة في الأخلاق الفاضلة، ونبغ فيها شهود على هذا المعنى، ما إن بُعث إليهم رسول إلا وكان كما عبر عن نفسه قائلًا: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، فكان كل خلق لهم رفيع أرسخ بعد الإيمان بهذا الدين، ورأينا بينهم قادة نوابغ أعلوا الأخلاق الحسنة الفاضلة، عاملوا بها الناس ودعوا إليها والتزموا بها، وكان هذا من أسباب نشر هذا الدين في أصقاع الدنيا، أليس الخلق الحسن من الإيمان، وهو ضياء الإسلام، ألم يقل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم»، وإن كان من مبادئ الدين أن تحسن خلقك فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اتق الله واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن»، ولتكون الأقرب مجلسًا لرسول الله عليه الصلاة والسلام يوم القيامة فكن حسن الخلق فهو يقول: «إن أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا»، ولمَّا التزم المسلمون بالأخلاق التي دعا إليها هذا الدين الحنيف، وهي صفوة أخلاق البشر في هذه الدنيا اكتسبوا ودهم، وكانوا لهم قدوة، فكانت الفضائل جزءًا من دينهم لها أحكام ثابتة فيه، فما من خلق فاضل إلا واتّباعه واجب في الدين، وليس من خلق رديء سيئ إلا وهو محرم فيه، وأمة هذه منزلة الأخلاق الكريمة فيها لا شك هي خير الأمم، ولذا كان الحكم من الله لها بأنها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، ولا شك أن أسوأ الأمم هي أمة لا تلتزم بالفضائل وتعمد إلى الرذائل فتكون من صفاتها، هم الأمة التي لا يتناهى أفرادها عن منكر فعلوه، فالله عز وجل يقول عنها: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)، وكما أوجب الله على عباده كل خلق حسن وفاضل، فقد حرّم عليهم كل خلق سافل وكل رذيلة ساقطة، وما الكبائر من المعاصي إلا أخلاق رديئة تهوي بمن اتصف بها إلى مهاوي المعصية لله عز وجل حتى تدخله يوم القيامة النار، وفعل المعصية يتردد بين قول يلفظه الإنسان بلسانه لا يحسب له حسابًا فيهوي به في جهنم يقول سيدنا رسول الله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم»، فالمسلم على يقين أن كلامه من أعماله إما أن ترفعه وتعلي مكانته، وإما أن تهوي به بين الناس وتفقده اعتباره، لذا كان التحذير من استعمال اللسان الذي هو نعمة من نعم الله في معصية الله، ففي الحديث الصحيح أن معاذًا سأل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الجنة ويباعده من النار، فذكر له عبادة الله وحده والصلاة والصيام والصدقة ثم قال: ألا خبرك بملاك ذلك كله؟ فقال معاذ: بلى يا رسول الله، قال فأخذ رسول الله بلسانه وقال: كف عليك هذا، فقال معاذ: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»، وما أعظم إرشادك سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آلك وأصحابك- فاللسان إذا انطلق بالسوء أفسد ما بين الناس أفرادًا وجماعات، بل وقل دولًا، وهذا لا شك يلاحظه كل عاقل، خاصة في زماننا هذا، وبعد أن مرت ببلداننا عاصفة ما أسموه خطأ الربيع العربي، فانطلقت الألسنة بالسوء لا يكبحها نصح ولا إرشاد وخسر كثير من الناس دينهم ودنياهم، وها نحن نمسي ونصبح ونحن لا نسمع من الألفاظ إلا ما حرم الله إلا في النادر القليل، فاللهم ارحم أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من ألسنتها وبيّن لها خير طريق إليك: قل خيرًا، أو فاصمت.