نظلم حضارة العصر إذا حكمنا عليها بأنها مادية فقط، فمن عرفها يقينا في عالمها الذي نشأت فيه، أقصد دول الغرب المتقدمة ماديًا، سيعلم حتمًا أنها مست كل جوانب الحياة حتى الروحية منها،
فقد أتاحت للفرد أن يدين بما شاء، وأن يختار الطريقة التي يتواصل بها مع خالقه حقًا، أوما يتصور أنه إلهه، ففي الغرب تلاحظ اليوم تعدد الديانات، حتى في تلك المجتمعات التي كادت في الماضي أن تكون مغلقة على دين واحد، هو المسيحية، ولكنه اليوم تتعدد فيه الديانات شرقية وغربية إلهية أو حتى وثنية، تتجاور في تلك المجتمعات، وتحميها دساتير وقوانين صارمة، تمنع أن تطغى إحداها على الديانات الأخرى.
فالعلمانية لا تلغي الأديان كما يتصور الإسلاميون في شرقنا، وحتمًا هم لا يحتكرون الإسلام بهذه التسمية فجل سكان الشرق يعتنقونه، فالعلمانية بالنسبة لكل الأديان محايدة، تحمي معتنقيها، وتتيح لهم أن يؤدوا شعائر أديانهم بحرية تامة،
ولكنها لا تعترف لها بدور مباشر في أنظمة الحكم، فهذه تحكمها ديموقراطية عبر دساتير وقوانين تحقق مصالح الجميع، ومصادرها متعددة، وهذه العلمانية في المجتمعات المتعددة الأديان قد تكون هي الحل الأمثل لحل ما قد تثيره هذه الأديان من صراعات،
والحضارة الإنسانية المعاصرة من الناحيتين المادية والمعنوية استطاعت أن تجعل الحياة سهلة ميسورة،
فما وفرته من الوسائل في كافة مجالات الحياة ونظمها جعلت الإنسان يعيش ظروفًا أفضل، فتنظر إلى الشوارع فلا نجد فيها من نفايات الناس شيئًا يتراكم فيها ليصلح كالجبال كما هو الحال في سائر المدن الشرقية،
ولست أظن أن هذا ناتج عن خوف من عقاب أو غرامة، ولكنها ثقافة ترسخت عبر الزمن فجعلت السلوك عند الجميع على هذه الصورة،
ولا تسمح وأنت تتجول في الطرقات والأسواق الأصوات المرتفعة، وتجلس في المقهى والجميع من حولك يتحدثون في ما يشبه الهمس، ولا تسمع أصوات أبواق السيارات أبدًا،
فالمشاة لا يسيرون إلا على الأرصفة المعدة لهم، ولا يقطعون شارعًا أو تقاطعًا إلا من موضع محدد، وكانت إشارة المارة خضراء،
وقد تسمع بين الحين والآخر صفارة الترام الذي يسير على قضبان حديدية يقطع هذا الهدوء الجميل معلنًا قدومه، وتصعد إليه فترى المقاعد الوثيرة والمتباعدة، لا تشعر بازدحام ركاب فيه،
ولا تراهم يتسابقون في الصعود إليه، وتلاحظ دقة التزام الناس بالأنظمة، يساعدهم على احترامها وضوحها واعتيادهم المستمر على تطبيقها، لا أحد هناك يحاول أن يغشك أويبيعك سلعة بأكثر من ثمنها، يحييك الناس ولو لم يعرفوا لغتك،
ويحاولون مساعدتك، ولو كان تواصلك معهم بلغة الإشارة، أما الطب فأساليبه قد ارتقت إلى الدرجة التي خففت آلام البشر،
وسعى المبدعون من الأطباء للتغلب على سائر الأمراض، مع المعاملة الإنسانية الراقية من جميع العاملين فيه من أطباء وممرضين وفنيين وموظفين،
فما إن تدخل أي مشفى إلا وتشعر أنك في أيد أمينة، يشرح لك الطبيب حالتك المرضية وما سيجريه لك من عملية بكل التفاصيل الممكنة، لا يحجب عنك شيئًا، ويحدد لك المواعيد بدقة، ويترك لك الخيار حتى بالتراجع عن ما اتفقت معه عليه،
ويقول ما لم تبدأ العملية فلك الخيار، ولن نطلب شيئًا، فتثق به، فشعورك بالإطمئنان في ظل قانون يحقق العدل ويطبق ولو كان بشريًا يجعلك في راحة تامة تبني حياتك على أقوم الأسس وأفضلها، مادمت تأمن أن جهودك من أجلها ستثمر حتمًا،
ولعل في كل ما ذكرت في هذه المقالة نتاج ما رأيت في مدينة ألمانية يقصدها الناس من كل أنحاء الدنيا للاستشفاء خاصة من أمراض العظام، والحياة فيها هادئة، لا تعترضها أي مشكلة، مع ما حباها الله به من طبيعة ساحرة ومياه وافرة وأرض وجبال خضراء، كلها حدائق غناء،
وأظن أن هذه الحياة السهلة الآمنة تزيد الإنسان رغبة في الحياة، وتحضه على الإبداع الذي ينتج مزيدًا من هذه الحياة الآمنة،
وأظننا قادرين على أن نصنعها في بلادنا إذا أخلصنا الجهد لله ثم للوطن وبذلنا النفيس والرخيص من أجل حياة كهذه نستحقها حتمًا فهل نفعل..!!؟؟
هذا ما أرجو والله ولي التوفيق.
شاهد أيضاً
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …