يوم كانت بلادنا لا تزال في بداية عصر نهضتها، وكانت مدنيتها لا تزال تنشأ يومًا بعد يوم، كان كل ما يتصل بالدين يسهل تقبله، إذا كان من يلقيه على الناس يوصف بأنه الشيخ، وما كان أحد يسأل على من أخذ العلم أو تلقاه، ولا أي معهد أو كلية أو جامعة تلقى العلم فيها، ولا يتساءل عن مقدار علمه في المسألة التي تحدث فيها، وهل اطلع فيها على مختلف المذاهب المعتبرة أم هو يتحدث من خلال مذهب واحد أو حتى عن رأي داخل مذهبه، فهذه الأمور كلها لم تكن تطرأ على أذهان الناس حينئذٍ، ولا تزال مشروعات التعليم وليدة وانتشار المدارس – ولا أقول الجامعات – محدوداً، ثم بدأت النهضة يتسع نطاقها والمدنية تعم أرجاء الوطن، وحتى بلغ التعليم في بلادنا نطاقًا واسعًا لم يُحرم منه قسم إداري من مناطق المملكة، ووجدنا الجامعات في أطراف البلاد وفي المناطق والمحافظات التي على حدود البلاد، ولم يعد الامر كما كان سابقاً عند خلو البلاد من معاهد العلم وجامعاته .
رأينا فكر السيد المطوِّع في قريتنا أو مرابع البدو في صحرائنا لا يزال يطل علينا الحين بعد الآخر، ولا أقول بالجهل فلديه من العلم مقدار أكبر اليوم إلا أن ما تلقاه عن مثله في الزمان الأول هو رائده يتمسك به ويجاهد ألا ينتشر غيره ،فذاك المطوع الذي مهما تغير موضعه لا يتغير فكره، ظل جامدا عليه حتى يوم الناس هذا، ما دام قد ارتضى أن ينعته الناس بوصفه القديم «المطوع»، ولكن هذا الوضع الذي اعتمد فيه المطوع على أن ما يلقيه على الناس مقبول، لعلمه أن جمهورهم غالبه مصدق له لا يناقشه أخطأ أم أصاب، جاوز به حدوده التي لا يجب أن يتخطاها عقلًا ولا شرعًا، فكثير من قضايا الدين محسومة بهما معًا، ولا أحد من العلماء يرى أن الدين في مواجهة مع العقل، ولا من لا يقتنع إلا بدليل العقل يرى أن العقل مصادم للشرع، فهذه قضية عفا عليها الزمن، ولا يجعلها تظهر أحيانًا إلا جهل بالدين، وجهل بدليل العقل ما هو، ومن الغريب أن نجد اليوم – وقد أصبح العلم الشرعي يحصل تلاميذه على الشهادات من الجامعات، وانتشر العلم بكل فروع العلم الشرعي وأصبح فيها متخصصون، وكذا سائر العلوم- من الغريب أن نجد من يكفِّر أحدًا لأنه على مذهب من المذاهب الأربعة هو لا يرتضيه أو شيخه المطوع قبله لا يرتضيه، أو يكفِّره لأنه على مذهب عقدي كالأشعري والماتريدي أو المعتزلي أو الزيدي، جهارًا أو يكتبه في كتيبات له، أو نسمعه منه في المسجد أو المحاضرة، وكذلك لم يعد من المقبول من يهاجم أتباع الصوفية وهم من المسلمين بالملايين وهو جزء هام من الأمة قديمًا وحديثًا، اعترف لهم جل العلماء بالصلاح بل وجل علماء الأمة في القديم، والحديث ينتسبون إليهم، ويتجاوز حتى يزعم أن للصوفية ديناً غير دين الإسلام، أو أن نسمع منه أن فكرة عدم تكفير أهل القبلة لا يعترف بها، وأن كل من لم يكن على مذهب أهل السنة الذي يحصره في فئة قليلة من الأمة يكون في نظره كافراً، ولا يكتفي بهذا بل ويجهِّل كل من قال بالحق واحترمه، وتعجب لأمثاله وهم في مجتمعنا كثيرون ألا يعترفوا بعلم أحد إلا إن كان يقول بقولهم، ولا يخرج عنه أبدًا، وخذ على هذا كثيراً من الأمثلة مع شيوع ألوان من الجهل بين هؤلاء، فهذا الذي يزعم أن لا قبر على وجه الأرض إلا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي لم يستطع أن ينكر وجوده، مع أن كثيرًا من الأنبياء والصالحين وقادة الأمم تناقلت الشعوب جيلًا بعد جيل، مواقع قبورهم، وكذا الأئمة والعلماء والصالحين في هذه الأمة، وإنكار قبورهم لا يصنع شيئًا، بل هو لون عبث لا فائدة منه ولا يحقق للإسلام شيئًا، وهذا إنما هو ملمح لما يجب أن يشمله التغيير في حياتنا في هذه البلاد، وأن نقول بملء الفم: لا تجهيل بعد اليوم، العلم منتشر، والعلماء متوافرون، وكما سُمح لأفكار مثل ما سبق بالانتشار فليسمح لأفكار تنشد مستقبل هذه البلاد أن تنتشر ومن المناقشة ينبثق النور، والتعتيم إنما ينشر الجهل، وفقني الله وإياكم لسواء السبيل، وهو القادر عليه.