الاحتفاء بالشيء لا يعني نقله من الإباحة إلى كونه عبادة أمر الله بها، فكم من مباح لا يتعبد الناس به الله إلا إذا كان فيه ما يعتبر طاعة لله كذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
ذاكرة التاريخ تختزن في الأعوام والشهور التي تعد من أعمارنا من الأحداث العظام، التي وقعت فيها، وسجلته أقلام المؤرخين، تصف للناس أهميته وأثره في حياة الأفراد والأمم، لهذا عمد مؤرخونا بأن يجعلوا مجمل تواريخهم حسب الأعوام وما حدث فيها من الأحداث المؤثرة، وما ولد فيها من العظماء أو توفوا في تلك الأعوام، ولأيام الله أثر في حياة الأمم لهذا أمر الله سيدنا موسى عليه السلام أن يذّكر قومه بها فقال (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكّرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)، قال الإمام الطبري: وقوله»وذكّرهم بأيام الله»، قال: أيامه بما سلف من نعمى عليهم في الأيام التي خلت»، كما أن الاعتبار بما جرى في أيام الله وما حملت في طياتها من خير أو شر، هو سلوك المؤمن العاقل، وشهر ربيع الأول فيه أحداث ثلاثة عظام كلها مرتبطة بسيرة خير خلق الله، إمام رسله وخاتم أنبيائه، أولها وأشهرها أنه عليه الصلاة والسلام ولد فيه في يوم اثنين، الجمهور على أنه الثاني عشر منه، وقد احتفى به فصامه، لفضل الله عليه بهذه الولادة، فإذا صمنا هذا اليوم اقتداء به فلا تثريب علينا في ذلك، فالنعمة بولادته علينا أعظم، فوجوده-صلى الله عليه وآله وسلم- غاية النعماء لنا، به أخرجنا الله من الظلمات إلى النور، وبه هدانا إلى الطريق الموصل لرضاه، ولنكون من عباده الذين اختصهم برحمته، وخلق الجنة لهم، جعلنا الله ممن يقبلون بشارته، فنشرب من حوضه ويشفع لنا يوم لا شفيع سواه، وهو فضل من الله ورحمته علينا والله يقول: (قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، وقد عظمت فرحتنا بولادة سيدنا وقدوتنا إلى كل خير، نبي الله ورسوله- محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وآله وسلم- كما عظمت فرحتنا ببعثه بالرسالة إلينا، وبكل مناسبة ارتبطت بسيرته، ومنها الحدث الثاني العظيم الذي وقع في شهر ربيع أول وهي هجرته إلى المدينة، التي بدأ بها عزنا وانتشار ديننا وأمن أجدادنا من سعوا معه إلى الهجرة إليها ليكونوا هم والأنصار أهل المدينة أمة واحدة، وكان وصوله- عليه الصلاة والسلام- إليها في الثامن من هذا الشهر الكريم، وإن كانت هناك أقوال أخرى، واختار سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الأول من محرم ليكون بداية التاريخ بالهجرة وقبل ذلك صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم، واحتفينا بالهجرة عبر القرون في الأول من محرم مع علمنا أن الهجرة تمت في شهر ربيع، ونستيعد الذكرى هذه الأيام ونسعد بها، ولا نرى أن بذلك نرتكب محرمًا ولا أننا بذلك نحتمل إثمًَا، ولا نطلب من أحد أن يحتفي بما احتفينا به مع جمهور الأمة في كل بلدان المسلمين، أما الحدث الثالث فهو وفاته صلى الله عليه وآله وسلم- واختلفوا في تاريخ وفاته، فتمسك من يريد ألا تحتفي الأمة بولادته أن يأخذ بالقول أنها كانت في نفس اليوم أي الثاني عشر من ربيع الأول، واجتماع الوفاة والولادة في نظره يلغي الفرح بولادته، والحقيقة أن الفرح بولادته وحياته عليه الصلاة والسلام كانت نعمة حقيقية على هذه الأمة، بل هو الفرح بهذا الدين الحنيف الذي جاءنا به سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- أما وفاته فحدث مؤلم عظيم فقد جاء في سنن إبن ماجه قوله- صلى الله عليه وآله وسلم-:( يا أيها الناس أيما أحد من الناس «أو من المؤمنين» أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدًا لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي)، فما مرت بهذه الأمة مصيبة أعظم من مصيبتها في نبيها حينما اختار الرفيق الأعلى، ولكن الفرح بوجوده الذي جعلنا له أتباعًا، وأنار الله به بصائرنا لاشك أنه أعظم الأحداث قاطبة، وهو الذي نصبر على قدر الله في مصيبتنا فيه حين الوفاة، فحزنا ثواب الخيرين، فرحنا بولادته وصبرنا على انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فجمعنا بينهما ولم نعمد إلى القول: «إن عاشوراء والهجرة النبوية من أيام الله تعالى التي يذكر بها الناس، أما يوم مولد المصطفى فليس كذلك، لأنه حكمت ببدعته جماعة هو لا يستطيع أن يخالفها، والاحتفاء بالشيء والاحتفال به لا يعني نقله من الإباحة إلى كونه عبادة أمر الله بها، فكم من مباح لا يتعبد الناس به الإله، إلا اذا كان فيه ما يعتبر طاعة لله، كذكر الله والصلاة على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ولهذا حكم الإمام ابن تيمية أن من حضر المولد من أجل ذلك يثاب عمله، ومن ارتكب أثناءه معصية يعاقب عليها، هذا إذا ثبت أن من يحتفون بالمولد يرتكبون معاصي أثناء هذا الاحتفاء، هو رأي يقابله رأي، وتعدد الآراء فضيلة، وهو ما نرجو والله ولي التوفيق.