من موضوعات أئمة مساجدنا في شهر شعبان الحديث عن ليلة النصف من شعبان وما ورد في فضلها من أحاديث ليعلن جلهم أنه لا يصح في فضلها حديث، بل ويزيد بعضهم أنها ليلة كباقي الليالي لا يميزها عنها شيء، بل ويتجاوز بعضهم إلى أن يقول إن إحياءها بدعة، وصوم نهارها كذلك، والاختلاف حول بعضها ممتد، رغم أن الناس أدركوا فضلها منذ عهد التابعين، يقول ابن رجب في لطائف المعارف: «وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها، ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها»، وقال: ووافقهم على تعظيمها طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، ثم ذكر من خالفهم، ونقل أن علماء أهل الشام من التابعين كانوا فريقين: الأول استحب إحياء هذه الليلة جماعة، ويقومون في المسجد ليلتهم تلك ووافقهم إسحاق بن راهوية، وقال: ليس ذلك بدعة، والثاني يرى إحياءها في المنازل وكرهوا إحياءها في المسجد وهو قول الإمام الأوزاعي واختاره ابن رجب، ويقول ابن تيمية رحمه الله: «وليلة النصف من شعبان قد روي في فضلها من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها مفضلة، وأن من السلف من كان يخصها بالصلاة فيها، وصوم شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة» وقال: «إذا صلى الإنسان ليلة النصف وحده أو في جماعة خاصة كما كان يفعل طوائف من السلف فهو حسن»، وقد ورد في فضلها أحاديث بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، والضعيف منها غير الموضوع يؤخذ به عند جل فقهاء المذاهب الأربعة في فضائل الأعمال، وتعظيم هذه الليلة وإحياؤها إنما هو من فضائل الأعمال، وأصح حديث ورد في فضلها منها: «في ليلة النصف من شعبان يغفر الله لأهل الأرض إلا لمشرك أو مشاحن»، ومنها: «إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه فيغفر للمؤمنين ويملي للكفارين ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه»، ومنها: «إن الله تعالى ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن»، ومنها: «إن الله يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه، وتبقى قضية تخصيص ليلة النصف من شعبان بقيام «صلاة» أو ذكر أو تلاوة، فلا أظن أحدًا يستطيع أن يقيم دليلًا على أنه يحرم وما البدعة إلا فعل محرم، فلا بدعة هنا فهذا يدخل تحت عموم الأدلة بقيام الليل، أما الصوم فاليوم الذي يتلو ليلها هو أصلاً مندوب صومه لأنه من الثلاثة الأيام التي ندب صومها الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، وهو من أيام شعبان التي ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر منه صيامًا في شعبان، ويصرح بأن الأعمال ترفع فيه ويجب أن يرفع عمله وهو صائم، ونحن كذلك نتمنى أن ترفع أعمالنا ونحن صائمون، وأما ما سميت صلاة الرغائب فهي عند الجميع بدعة لأنها لم تثبت، وأما إحياء ليلة النصف بصلاة وذكر وتلاوة وصوم لا دليل على تحريمه، فمن اعتاد أن يقوم ليلة الجمعة مثلاً فهل يقال له إن قيامك بدعة، وقد يعتاد أحدنا الإقامة بمكة أو المدينة أيامًا يحددها في السنة يتفرغ فيها للعبادة فهل يقال له ابتدعت لأنه بزعمنا خصص هذه الأيام لصلاة أو صيام أو ذكر وتلاوة.
وقد أعجبني قول أحد الذين ألّفوا في فضل ليلة النصف من شعبان وهم كثر من علماء الأمة، أنه كتب ذلك إحقاقًا لما يؤمن به من حق نعتقده، ولا نعادي من يعتقد سواه، ويقول: نحن نقلد من أجاز، ومخالفونا يقلدون من منع، ولكل من الجانبين دليل يطمئن إليه، فهل من الإنصاف العلمي أن يبيحوا لأنفسهم تقليد من شاءوا، ويمنعونا من تقليد من نشاء.
وقبل الختام، فهذه الليلة أيضًا تشير لمناسبة جليلة أرضى الله بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي نهارها حوّل الله القبلة من بيت المقدس إلى البيت العتيق استجابة لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وَجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).