لم يكن رمضان في بدء ظهور الإسلام كما هو في زماننا، فالمسلمون -آنذاك- كانوا يستعدّون لاستقباله منذ شهر رجب، الذي هو شهر الحرام المنفرد بين الأشهر الحرام، وله فضله فهو من الأزمنة الفاضلة التي يملأها المؤمنون بالطَّاعة، صلاةً وقيامًا وذكرًا وتلاوةً، ثم يأتي بعده شعبان الذي كان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفضل صومه، لأنَّه شهر كما يقول بين رجب ورمضان، والناس تغفل عن فضله، حتى قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: أنّه كان يصومه كله، وفيه الأعمال ترفع إلى الله، وهو عليه الصلاة والسلام يجب أن ترجع أعماله إلى المولى سبحانه وهو صائم، كانوا يستقبلون رمضان بالطاعة فيقدمون التوبة والاستغفار، ويملأون أيامه بالعبادة، نشاط متصل منذ بدأ الشهر وحتى نهايته، ولا يدعون عملاً دنيويًّا فيه لهم نفع، بل يزدادون إخلاصًا في أدائه، يصلون الفجر وينطلقون لأعمالهم، لم يعرفوا ما عرفه أهل زماننا من كسل في أثناء هذا الشهر الكريم، لم يناموا نهاره ويسهروا ليله، وما حدث ذلك إلاَّ عندما ضعف إقبال الناس على الطاعات وانشغلوا بملذات الدنيا، فالعبادة المظهر الأول الذي يشجع المؤمن على العمل الدؤوب، والتكاسل عنها يقود إلى التكاسل عن كل الأنشطة المهمة للحياة، بل إن أهم معارك الإسلام وقعت في هذا الشهر الكريم فبدر الكبرى كان زمانها شهر رمضان، كذا أهم فتح في الإسلام، وهو فتح مكة كان في هذا الشهر، وليعود المسلمون أقوياء كما كانوا حين عهد الرعيل الأول منهم، لابد وأن يسيروا على نهج سلفهم، ويجعلوا العبادة ديدنهم، ويعلموا أن كل عمل يؤديه الإنسان بإخلاص بنية كسب رضا الله عز وجل هو عبادة له، ثوابه عليها عظيم، وتعرض ذاك الرعيل للمصاعب ونالتهم المشقات وهم يدأبون للوصول إلى رضوان الله، فكانوا خير الأمم نشاطًا في عمارة الأرض، وبناء الحضارة، صبروا وجاهدوا، وهذا سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة لهم في ذلك فقد تعرض لكل صنوف الابتلاءات، فقد الأب والأم صغيرًا، تعرض لاضطهاد قومه مع صحبه، ثم أخرجوه من أحب البقاع إلى ربه وإلى قلبه، ثم مرّت به الأزمة بعد الأزمة، حوصر مع المؤمنين به في الشّعَب، ثم مر به عام كله حزن، فقد عمه أبا طالب، الذي كان يدرأ عنه ما تواجهه به قريش من اضطهاد لمن آمن به، وزوجه سيدة نساء قريش، التي اعتنت به بعد أن آمن به وصبرت معه على الأذى، فقد توفيت بعد وفاة عمه أبي طالب في السنة العاشرة من النبوة، وقبل ثلاث سنين من هجرته -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فخديجة بنت خويلد، أم المؤمنين كانت الزوجة الصالحة، التي تعين زوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- وترعاه في أهم مراحل حياته، حين نزول الوحي عليه وتصديه للدعوة إلى هذا الدين الحنيف، فبعظيم ذكائها الفطري، استطاعت أن تدرك ما مر به عند اللقاء الأول مع المَلَك جبريل عليه السلام، وآمنت به حينما كذّبه الناس، وحفظت له ودّه حتى قال: إني رزقت حبها، وما أجمله من قول يعتبر الحب رزقًا من الله عز وجل، يرقى بروح الإنسان ويزيدها نبلاً، وقد أثر في سيدي رسول الله الحدث بوفاة عمه وزوجه، فتضاعف حزنه لذلك، ولكنه زاده قوة في أن تصل دعوته إلى الناس كافة ليهديهم إلى النور الأعظم الكامن في هذا الدين الحنيف، وليجمع الناس على محبة الله ورضوانه، لتنجح دعوته وتتعلق بها أجيال من البشريّة تتابع إلى اليوم، رضي الله عن أُمّنا خديجة بنت خويلد، وأرضاها من أرسل الله جبريل بالسلام عليها، (ومن بشرت ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصيب)، أم فاطمة الزهراء أم أبيها وأم ابنيه الحسن والحسين، كما أن يدعوهما -صلى الله عليه وسلم- وهما سبطاه من فاطمة، وابني علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وما أعطرها من سيرة تنعش القلوب بذكر الصفوة من آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرمضان مليء بذكريات لهذه الأمة المسلمة لو تتبعوها لوجدوا فيها القدوة الحسنة، فرضي الله عن أم المؤمنين خديجة، وجزاها الله عن أمة الإسلام خير الجزاء.