في مكة المكرمة -وحسب ثقافة أهلها- مجالس للعلم، يعقدها أهلها، ويتخيّرون من أهلها أهل الاختصاص العلمي في علوم الدِّين المختلفة، يلقون فيها دروسًا في علوم الحديث والتفسير والفقه وأصوله، يتبعها مجالس للذكر يحتفون فيها بالمناسبات الدينية، وكان ديدن أهل مكة -بمختلف أعراقهم- الاجتماع على هذا اللون من الثقافة، ينقلها السابق إلى اللاحق، وحينما انصرف علماء الحرم المكي، الذين تلقَّى مثلي العلم على أيديهم، منه إلى بيوتهم يعقدون فيها حلقات دروسهم، أصبحت هذه المجالس مدارس علمية، فهم يعترفون بالتنوّع، فالمذاهب الأربعة ينتمي إليها أهل مكة، وإن تفاوتت نسب الانتماء من مذهب إلى آخر، ويسرهم استعادة الذكريات في المناسبات الدينية الهامة كمناسبة مولد سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسراء والمعراج، ومعركة بدر، وفتح مكة، والهجرة النبوية، يتّخذون منها تذكيرًا بهذا الدِّين الحنيف، وأحكامه وقيمه، ويوقظون مَن غفوا عن أمجاد أهل هذا الدِّين، ولا شك أنّهم في مجالسهم يسمعون الأناشيد التي تستثير الحماس للذكرى، وحاشاهم أن يأتوا في مجالسهم هذه ما يخالف الشريعة والعقيدة، فهم مخلصون لدينهم، ثابتون عليه، أخذت العلم عن بعض علماء مكة الأقدمين، فما رأيت عندهم ما يُخالف الدِّين، بل كنا نتلقّى بعض كتب العلم في سائر فروعه بسندها إلى مؤلفها، وهي مصادر العلم الشرعي المعلومة في كتب الحديث، أو الفقه وأصوله، أو سواهما، ثم التحقنا بالمدارس والمعاهد والكليات، ودرسنا ما سبق دراسته في الحلقات، وكان درسه في الحلقات أوثق وأكثر ثبوتًا في العقول والصدور، ولم أسمع حتى اليوم ممّن درسوا في هذه الحلقات في الحرمين الشريفين، أو في مجالس العلم، ويلحق بها مجالس الذكر مَن انضم إلى هذه الفئة الضالة من خوارج هذا الزمان، ولي تلاميذ في علمي «الحديث والفقه وأصوله» كلهم من إخواني الذين اجتمعوا على المحبة في الله، والبغض فيه، هم يتلقون العلم برغبة، مع أن جلهم قد تخرج في الجامعة من مختلف التخصصات، فعلم الدِّين لا يقود إلى هذا الإرهاب، بل هو يُحاربه، ويثبت في النفوس كراهية العدوان على النفس والمال والعرض، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، ورسّخه في قلوبنا، حتى أحببنا ما يرضي الله عنّا، وكرهنا ما يسخطه علينا، فاللهم اغفر لنا ذنوبنا، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.