الاختلاف السائغ منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم وتابعيهم لم يكن سببًا للخصومة أبدًا
التحاور في مجال العلم متعة الأذكياء، ممّن وهبهم الله الملكات والقدرات الإبداعية في الغوص في أعماق العلوم، ولهذا عُني العلماء بما كان بين العلماء البارزين بحفظ ما وقع بينهم من اختلافات ومناظرات، وأسس علماء الإسلام علومًا للاختلاف والمناظرة والجدل، فالتراكم العلمي الذي استمر منذ بداية التأليف في القرن الثاني الهجري وحتى اليوم في العلم الإسلامي، فتح للعلماء مجالات عدة في أبواب من المعرفة لا حصر لها، فكتب الاختلاف وأسبابه قد بلغت عددًا كبيرًا في تراثنا الفقهي، وفي كتاب الأمم للإمام الشافعي عدة كتب لاختلافه مع علماء عصره، وفي المناظرة والجدل في تراثنا العديد من الكتب، منها كتاب الكافية في الجدل للإمام الجويني، والمنهاج في ترتيب الحجاج للباجي، وعلم البحث والمناظرة لطاش كبرى زادة، والمعونة في الجدل لأبي إسحق الشيرازي، والمنتحل في الجدل للإمام أبي حامد الغزالي، ولو ذهبنا نستقصي هذا اللون في التأليف في تراثنا العلمي قديمًا وحديثًا لاحتجنا إلى عدة مقالات، وفي أدب الاختلاف والحوار في تراثنا ما لو جمعناه في كتب لكان موسوعة، وحفلت الساحة العلمية في دول الإسلام الأولى بالتعدد الفكري الذي لا مثيل له اليوم في ديار المسلمين، وتحاور السنة مع الشيعة، والمسلمون مع النصارى، بل لكان للفرس والهند مساهمة في حضارة الفكر الإسلامي، وتلك الحضارة هي التي نشرت الإسلام فيما بعد في شتى أرجاء العالم سلمًا لا حربًا، ولكن هذا كله لم يتأتَ إلاَّ وفق معايير إنسانية بدأنا في عصورنا المتأخرة نفتقدها، فالتسامح الذي ساد مجتمعنا الإسلامي في البداية كان من الواجب إنسانيًّا أن نحافظ عليه، ذاك التسامح جعل الخلق كلهم يثقون بنا وبديننا، ويعتنقه الكثيرون منهم عن اقتناع به، وعاشوا في ظلاله مسلمين أتقياء، وملأنا العالم القديم كله فانتشرنا من الشرق عند إندونيسيا، وحتى المغرب عند الأطلسي، وكان العلماء بالإسلام هم شعلة هذا الانتشار، وبما جرى بينهم من محاورات علمية، وبينهم وبين غيرهم من أهل الأديان الأخرى، وما لهم من ثقافات، فعلّموا الناس كيف يكون التحاور، وهذه الحضارة هي التي قادت أوائلنا إلى إقامة إمبراطورية عالمية.
وزال مع تأخرنا كل ذلك، ولو نظرنا إلى أساليب هذا التحاور لرأينا اختلافه عمّا حل محله من أساليب مستجدة جعلت الاختلاف مصدر خصومة بين المختلفين، مع أن الاختلاف السائغ منذ عهد الصحابة -رضوان الله عليهم- وتابعيهم لم يكن سببًا للخصومة أبدًا، ها هم صحابة سيد الخلق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنهم يختلفون، فلا يخاصم أحدهم الآخر، وسنجد من المسائل التي وقع بينهم الاختلاف العدد الكبير، كاختلافهم في متعة الحج، وكاختلافهم في قسمة الغنائم، وهل يستبقى منها شيء للذرية وللجهاد فيما بعد، بل إن الأمر تجاوز هذا إلى اختلاف في مسائل دقيقة من الأصول كرؤية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لربه يوم أن عرج به إلى السماء، وهل رآه بعينيه أم بقلبه، ثم خلف بعدهم التابعون لهم بإحسان، فكان الاختلاف أوضح وأدواته أوفر، بعد أن بدأ الاحتكاك بعوالم أخرى لها حضارات متنوعة وثقافات متعددة، حتى إذا جاء عهد تابعي التابعين تمايزت المدارس العلمية الفقهية، وبدأت المناظرات العلمية يتسع نطاقها، وتعدد المتحدثون بلغات مختلفة، يترجمون العلوم الدنيوية من فلسفية وطبية ورياضية، واشتغل العلماء بالتأليف في العلوم الإسلامية التي تنوعت وتعددت، وشاع بينهم التحاور، فازدادت المعارف عند المسلمين تراكمًا ثم توالت القرون، حتى جاء القرن السادس والسابع الهجري، فألفت الموسوعات في العلوم الدينية بالذات في التفسير والحديث والفقه والأصول، وأرسيت المصادر الكبرى للتاريخ والأدب، ثم بدأنا نعيش على تراث ماضينا، وقل أن نضيف إليه شيئًا جديدًا، فتراجع الإبداع، وانغلقت بلداننا بعد أن مزقت إلى دول وإمارات صغيرة على نفسها، فما أن جاء القرن العاشر الهجري وما بعده إلاّ ونحن نعيش خارج العالم، لا ندري عمّا يجري فيه شيئًا، فتراجعت العلوم وكسد الفكر، ولم يعد للترجمة وجود، وشاع لون من النفور من كل جديد، وتطور فكر يحرم العلوم الدنيوية، ويرى الاشتغال مضيعة للوقت، وبدأ الرجوع إلى ألوان من الخلاف لا ثمرة لها سوى إشاعة ألوان من الكراهية والبغضاء بين المختلفين، فاستدعى الخلاف العقدي ما وجد منه وما ابتدع، وأصبح مجالاً للتأليف والردود المتلاحقة، وشاع بين بعض من انتسبوا إلى العلم التكفير لمن يخالفهم رأيًا أو معتقدًا حتى أننا لن نجد من ذلك الوقت وحتى اليوم مَن ألف موسوعة في أي باب من أبواب المعرفة دينية كانت أم دنيوية، بل شاعت الركاكة في أساليب المؤلفين، والتكرير لموضوعات لم تعد اليوم ذات أهمية، وأصبحنا في كل المعارف والعلوم عالة على غيرنا من الأمم، مثل ما نحن عالة عليهم في الصناعات والتجارات، فلا نهضة لنا إلاّ بالعلم، فإذا لم نعد إليه كما كان الأوائل يفعلون فسنعيش على هامش الحياة ما حيينا، فهل ندرك هذا؟ هو ما أرجو والله ولي التوفيق.