لو أن المسلمين ظلوا على هذا المبدأ لما هزموا قط وإنما أتتهم الهزيمة لتخليهم عن هذه المبادئ واشتغالهم بالدنيا..
رمضان شهر كريم أنجزت فيه المهمات، وانتصر فيه الإسلام على أعدائه، لم يركن المسلمون فيه من قبل لراحة تستلذ فيها الأجساد بالمنام، ويسهرون الليل فيه لتناول لذيذ الطعام، إلا عندما وهن منهم الإيمان، وتخلوا عن أهم مبادئ فضائل الرجولة والإقدام، كانوا في ماضيهم المشرق يعملون نهاره ويقومون ليله، يحصلون فيه الفضائل، ويتقربون إلى رب الخلائق، وقد ذكرنا في ثلاثة مقالات سبقت الأحداث العظيمة التي كان ظرفها الزماني شهر رمضان المبارك، ففي رمضان نزل القرآن الكريم معجزة الإسلام الكبرى، وفيه تم الصلح بين سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وقريش، ثم كان فتح مكة وانتشار الإسلام في أرض الجزيرة كلها، وقد سبق كل هذا المعركة التي أسست لكل هذه الانتصارات معركة بدر، التي كانت في السنة الثانية من الهجرة، في اليوم السابع عشر من شهر رمضان، ومعلوم أن الصوم فرض في نفس السنة، فكان فرضه يُمنًْا للمسلمين، حيث تم أول انتصار لهم ناجز على عدوهم الشرس، فيه أول معركة قامت بين حق جاء به سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليخرج به الناس من ظلمات الشرك والجهل إلى نور العلم وهداية الله، والباطل الذي استشرى في العالم حينئذاك، وهذه المعركة الخالدة سماها ربنا الفرقان حيث يقول:(وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم تؤمنون بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير)، ففرق الله بها بين حق لا بد أن يسود بهذه الرسالة الخالدة الباقية، وبين باطل يحتمي به أهل الاستبداد والظلم في هذا العالم، وشرع الله بها للمسلمين أحكام الحرب والسلام، ومتى تكون الحرب، ومتى يكون السلام، وكيف تدار معارك الحق، وبعد أن استوفى المسلمون وقائدهم – عليه الصلاة والسلام – كل الطرق الممكنة لدعوة الناس إلى الحق والعدل والمساواة، فلما أبوا إلا القتال، أمر الله نبيه وأصحابه بالقتال، لصد عدوان من بدأ يعد له عليهم، وتظهر لهم بوادره في كل حركة في مكة وعلى الطريق إلى المدينة، وما كان المسلمون يتوقعون قتالًا، وإنما خرجوا للإغارة على قافلة تجارة لقريش، يستعيدون بها أموالًا نهبت منهم، واستحوذت عليها قريش حينما هاجروا إلى المدينة، ولما فُرضت عليهم المعركة تصدوا لعدوهم بعزم وحزم، وكان أمرهم شورى بينهم، فكان سيدهم وقائدهم الرسول الذي يوحى إليه يشاورهم في أمر القتال ويقول:(أشيروا عليّ أيها الناس) فكانت الإجابة الإيمانية واضحة جلية (امضِ بنا يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد) ليقول لهم نبيهم وقد علم أن النصر لدينه آت لا محالة:(سيروا وأبشروا فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين)، فإن فاتتهم طائفة حراس القافلة التي فيها أموال قريش، فحتمًا لن تفوتهم الطائفة الأخرى التي جاءت لقتالهم، وهي بما وعد سيدنا رسول الله سترتد إلى مكة مهزومة بإذن الله، بعد أن تترك قتلاها في القليب ببدر، وفيهم صناديد قريش الذين أتوا يأملون النصر فكانت العاقبة الموت، وكانت المعركة بكل ما فيها بين فئتين غير متكافئتين عددًا وعدة، ولكن الإيمان جعل القائد يسير في أرض المعركة قبل أن تبدأ فيشير إلى مصارع الأعداء فيقول:(هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، غدًا إن شاء الله)، فيكون الأمر كما قال، وينتصر العدد القليل القوي بالإيمان على العدد الكثير الذي فرغت منه العقول والقلوب من مثل هذا الإيمان الراسخ، ورأى الناس في المعركة إبداعات لمن كان عدوهم يظن أنهم يهزمهم في أول لقاء بينهما، وسمعت الدنيا قصصًا هي أشبه بالمعجزات لشيب وشبان خرجوا للقاء عدوهم، وكلهم إيمان بأن الله ناصرهم لا محالة، ولا غاية لهم إلا إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، لا يشغلهم طلب شهرة ولا مال، وإنما شغلهم الشاغل أن ينتصر الحق ويهزم الباطل، ولو أن المسلمين ظلوا على هذا المبدأ لما هزموا قط، وإنما أتتهم الهزيمة من تخليهم عن هذه المبادئ الإيمانية واشتغالهم بالتنافس على الدنيا، ولا بد لهم أن يستعيدوا وهج الإيمان في نفوسهم مرة أخرى لينتصروا فهل هم فاعلون هو ما نرجو والله ولي التوفيق.