رغم أني أحتاط لتسمية ما يكتب ويعرض على الناس في كتاب أو محاضرة بحثاً، وهو في الغالب اليوم لا يلتزم المعايير العلمية، حتى أننا أحياناً نقرأ بحوث رسائل أعدت في الأصل للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراة كذلك، إلا أني أجد لزاماً عليّ أن أنبه على ما يجري في ساحات الجامعات، وأخص الساحتين الثقافية والعلمية بمزيد حديث عله يكشف على ما يعانيه المجتمع من أدعياء علم وثقافة وأدب وفكر، وهم وللأسف تخلو أذهانهم من كل هذا.
حينما كنت على رأس العمل، وقد دَرَّست في كلية المعلمين تابعت ما يكلف المدرسون به الطلاب من بحوث القصد الأول منها الحصول على درجات، فلا المدرس يهتم لها ولا الطالب يعتني بها وكثير من الطلاب يلجأ لمن يكتبون لهم بحوثاً ليضعوا أسماءهم عليها، وإذا أصر أحد من المدرسين ألا يقبل البحث إلا مكتوباً بخط يدي الطالب، فكثير منهم يتنازل عن هذه الدرجات ولا يقدم بحثاً.
وقالوا: إن بعض أساتذة جامعاتنا يظل مكانك سر، لأنه طوال خدمته لا يقدم بحثاً للترقية، ويظل أكثرهم أستاذاً مشاركاً، ولا يصل إلى الأستاذية لإهماله في إعداد بحوث الترقية، ويقال إن بعضهم لا يحسن إعدادها، وأن بعضاً من مبتعثينا يمارس ما مارسه طلابنا هنا في الدخل فيشتري بحوثاً يقدمها لأساتذته ليجتاز مرحلة بعد أخرى، طبعاً لا نعمم، ولكن ما يقال حتماً له وجود ملاحظ.
وكلنا نقول في وقت مضى يجب ألا نقبل من التلاميذ مثل هذا السلوك حتى لا يعتادوه فينشأ جيل يقبل التزوير على أنه المخرج الذي به لا يبذل جهداً أبداً، وألا يقوم بعمل يحتاج إلى جهد أياً كان هذا الجهد، فما يعتاده التلاميذ وهم على مقاعد الدرس يستمر معهم في حياتهم المستقبلية، والزملاء يعرفون هذا، يتذكرون أيامهم على مقاعد الدرس وكيف استمروا بعد ذلك، لذا قيل: ربوا أولادكم لزمان غير زمانكم.
وجامعاتنا في مكتباتها أو قل مخازنها بحوث من كل نوع ولون قل أن يطلع عليها أحد، ومن صنعها وكتبها لم يعد بينه وبينها صلة، قد حاز على الدرجة، ولم يعد محتاجاً إليها، والجامعة لديها رفوفٌ تتسع لهذه البحوث التي لم ينشر منها إلا القليل، أما أن يستفاد منه فهو النادر جداً.
وأنا أدرك أن ليس كل بحث يستفاد منه، فكثير من هذه البحوث لا تقدم للحياة في مجتمعنا شيئاً يذكر، خاصة منها ما كان نظرياً، والذي غير ممكن الاستفادة منه ولدينا في الكليات النظرية الكثير من البحوث، التي لم يجد لها من كتبوها مجالاً لتطبيقها حتى ما كان منها في تخصص دقيق لهم، فلم يكن أمامهم سوى الاحتفاظ بها فوق الرفوف لتدل على ما قاموا به من جهد وللأسف لا يستفيد منه أحد.
أما البحوث العلمية في العلوم ذات الصلة بالحياة كعلوم الدين، والتي جل البحوث فيها اليوم لم يستفد منها أحد، لأن الكثير منها لم يزد على إنتاج ما سبق إنتاجه ولم يستطع أحد أن يطور وسائل البحث فيها، بل لعل الكثيرين لم يخضعوا أبحاثهم لمناهج البحث فيها، الذي وصل إليها سلفنا في هذا المجال، فتراجع البحث ولم يعد مقبولاً.
ولو بحثنا عن جداول البحوث في كلياتنا الشرعية لاكتشفنا كثيراً من هذه الأبحاث التي لم تعتمد منهجاً للبحث يعطي الثقة بها، وخاصة الأبحاث الفقهية التي تنتسخ أبواباً فقهية قتلت بحثاً عبر الزمان، وتقدم في صورة تصرف عنها اهتمام كل من له علم بهذه المباحث.
وعندنا كثير من البحوث في التاريخ لا تقدم جديداً، بل إنها لا تلتزم بمناهج البحث فيه وقد تعيد كتابة مرحلة سابقة فلا تجيد عرضها، على أسس صحيحة وتقدم معلومات غير موثوق بها، بل وجدنا أحياناً تحقيق كتب تاريخية للعبث فيها بإلغاء معلومات منها أو تأويل بعض حوادث تذكر فيها بغير ما عرفه أهل الثقة في هذا المجال.
ويبقى الأهم وهي الأبحاث في العلوم الطبيعية والتقنية التي يعتمد عليها الابتكار والاختراع، والتي تخدم الحياة المعاصرة، ورغم أن نصيبنا منها متواضع جداً إلا أننا لم نسمع عن بحث فيها أمكن الاستفادة منه حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال، فلا نزال ننتظر أبحاثاً ذات جدوى في علوم الأحياء والكيمياء والفيزياء، وكذا علوم التقنية الحديثة، وأن نجد لهذه البحوث آثاراً في واقع حياتنا، وتطور الحياة في وطننا لن ينجح ما لم يمر بتطور علمي هائل، وهو ما نفتقده اليوم، وننتظر أولادنا المبتعثين ليعودوا إلى أرض الوطن ويحيوا الحركة العلمية في بلادهم، وأن يؤسسوا المراكز العلمية التي ستخدم كل جوانب ومجالات الحياة في الوطن، لنلتحق بركب الأمم التي تقدمت، فالتقدم يستحيل بلا حركة علمية ناجحة.
ولهذا فالهدر في البحوث المتعمد، بصور مختلفة، أهمها ألا يعرف أبناؤنا طريقاً إلى منهاج علمية تنهض بعقولهم وتعدهم ليكونوا باحثين يعتمد عليهم وينتجوا الأبحاث التي تقودهم إلى الاختراع والإبداع لينهض بهم الوطن إلى عالم الدول التي استفادت من الحركات العلمية التي حدثت في العصر الحديث فغيرت الحياة في سائر بلدانها، وإذا لم نستفد من تجاربهم ونحيي الحركة لعلمية في بلادنا ونعدد وجوهها، وإلا فإننا سنظل في مكاننا لا نتقدم، وهذا يقتضي بذل جهود جبارة للوصول إلى ما نطمح إليه من مستوى علمي راقٍ يدفعنا إلى أن ننافس الأمم التي تقدمت وتركتنا وراءها نلهث ولم نلحق بها. فأحيوا العقول يرحمكم الله، فحياتنا بالعلم، فاصنعوا لها مجالاً تعمل فيه وقدروها حق قدرها، فذاك ما نريد.. والله الموفق.
Tags البحوث العلم العلماء العلمية هدر
Check Also
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …