الحب يرقى بالأمم والكراهية تنحدر بها

الحب طاقة إنسانية، تجعل الفرد ذا فعالية في خدمة مجتمعه، وهذا الحب ينطلق من محبتنا لخالقنا المتأتي من حبنا لمن عرّفنا الطريق إليه، سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فربنا عز وجل يقول: (قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)، فإنما بُني الدين على المحبة لله وللرسول، ومن أحبهما انطلق في ميادين الحب للأهل والأقارب ثم الأصحاب والجيران، ثم كان محبًّا لكل من خلق الله، يرجو لهم الخير، ويحب لهم ما يحب لنفسه، ففي الحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فالإيمان أيضًا مرتبط بالمحبة للغير الخير، كما تحبه لنفسك، بل إن العلاقة بين الناس مبنية على الحب في الله، فالمؤمن يحب المؤمن لأنه يحب الله ويطيعه، ويكره غير المؤمن لمعصيته لله، وعدم حبه له، بل إن ممّا يحب المؤمن لغيره ما أحبه لنفسه أنه يدعو غيره للإيمان بالله، أليس يقول إمامنا الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم)، ذلك أنه قد ذاق حلاوة الإيمان الذي رسخ في قلبه، فأراد لغيره أن يذوق تلك الحلاوة، وأن تكون حياته مبنية على هذا الحب. والصلة بين الزوجين إنما تُبنى على المحبة والرحمة. أليس يقول ربنا عز وجل: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، فإذا سادت المحبة بين الخلق، وحرص كل منهم على نفع الآخر، وألاَّ يصيبه مكروه، فإن المجتمع الذي تسوده المحبة يرقى دينيًّا ودنيويًّا، ويبلغ في الحضارة أقصى مداها، ولمّا كنا حتى ونحن نقاتل الأعداء نرحمهم، ونحب الخير لهم، قالوا عنّا: لم يعرف العالم فاتحًا أرحم من العرب، ولمّا بدأت ثقافة تسود وتُبْنَى على الكراهية والبغضاء، لم نعد تلك الأمة التي لمّا وُلّيت شؤون العالم أحسَّ الناس في ظلّها بالعدل، وسادت المحبة بينهم، فعاشوا على اختلاف أديانهم وأعراقهم ومذاهبهم وطوائفهم متصالحين، تعايشوا في ظل محبة هي في الأصل مقصودة لهذا الدِّين الحنيف، ولن تجد في كتاب الله لفظ حب وما اشتق منه من الألفاظ إلاَّ وهي ممدوحة، ومثنى عليها، إلاَّ بكون الحب عشقًا للشر، وما تفرع عنه (إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ)، (فَإنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ)، ولكن الله بنص القرآن الكريم لا يحب الظالمين، وهو لا يحب الفساد، ولا يحب من كان مختالاً فخورًا، وهو لا يحب من كان خوّانًا أثيما، وهكذا فالحب الذي يعمر النفوس يرقى بالأمم، أمّا إذا تحول إلى عشق للشر وما تفرع عنه من اعتداء وفساد، وكبر وغرور، فكل هذا شر لابد أن يجتث من المجتمعات الإنسانية حتى لا يدمرها، وأشده الكراهية والبغضاء التي ترسخ في النفوس، فينتج عنها اختلال المجتمع، وتربص أفراده ببعضهم، فالحق لابد أن يظهر، والباطل لابد أن يزهق، والله يقول: (لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ)، فالمجرمون هم مَن يُرسِّخون الكراهية، هم الكارهون للحق، الكارهون لكل خير ينال الناس، ولن تجد في القرآن لفظ كره، وما اشتق منه إلاّ مذمومًا، أمّا الإكرام فمحرم بنص الكتاب حتى في الإكراه على الإيمان، فالله يقول: (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، ويقول: (لا إكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ).
والفئات التي ظهرت في هذا الزمان المتأخر تؤسس لفكر ينتج عنه كراهية بين الناس باسم الدّين، ظنًّا منها ألا يعلم علم الدين سواهم، ولا يطيع الله إلاَّ هم، وعن فكرهم هذا ينشأ سوء ظن بسائر المسلمين فيبدّعونهم أو يفسّقونهم أو يكفّرونهم، وعن فكرهم هذا نشأت جماعات البغي التي انتشرت اليوم في كثير من أقطار المسلمين تقتل، وتستحل الأموال بعد نهبها، وتنهك الأعراض، وهؤلاء لم يُواجَهوا فكريًّا -حتى الآن- بالشكل المطلوب، لإسقاط دعاواهم الباطلة، فهل حان الأوان لنعرف حقيقة الدّين الذي بناؤه في الأصل على الحب، والكراهية والإكراه فيه محرمان، هو ما أرجو أن نعرفه، ونعمل به، ففيه الخير لنا، والله الموفق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: