صناعة التطور

الرافضون للتطوير لون من البشر من طول خضوعهم لنمط من الحياة ركنوا إليه عددا من العقود حتى أصبحت كل دعوة إلى تطوير يرون فيها عدوانًا عليهم

الرقي والتطور في أوضاع أي بلد في العالم ماديًا ومعنويًا هل هو ضرورة لابد أن تحدث لأن ركود الحياة على ما هي عليه دهورًا مستحيل؟، أم أنه يمكن لبلد ما أن يحافظ على أوضاعه القائمة آمادًا طويلة، على اعتبار أنها الوضع الذي هو قمة التطور، وأن أي تغيير يناله يضر بالناس الذين يعيشون فيه أضرارًا واضحة، وبالتالي تتفسخ أوضاع هذا البلد ويسقط في الهاوية، كما يروج لذلك الأيدلوجيون، الذين يرون أن ما يعتنقون من أفكار هي المثلى التي تصلح عليها أوضاع العالم أجمع، والنظم التي أنتجها هؤلاء شاهدة على ما نقول، ولكنها جميعهًا آلت إلى الفشل وزالت من الوجود اليوم، وما بقي يشبهها هو اليوم في طريقه للزوال، ذلك أن تطور الحياة من طور إلى آخر أمر لابد منه، لأن الجمود على حالة واحدة لا تتغير هو المستحيل ذاته، فحركة الزمان ذاتها تعني أن الأوضاع حينًا بعد حين لابد وأن تتغير، فحتى الأفكار الأيديولوجية التي ينظر إليها أصحابها على أنها مقدسة لا تتغير، هي في الحقيقة تتطور، وقد تنبثق من داخلها أفكار مضادة تحل محلها، وحتى في ظل الأديان لم يبق الوضع على صورة واحدة أبدًا، والأديان هي في ذاتها أهم تطور نال الحياة البشرية، وتتابعها في التشريع تطور آخر، بل إن دينًا كالإسلام جاء لتغيير أوضاع جمدت عليها الجماعات البشرية فأصبحت تخلفًا عظيمًا دمر الحياة، فجاء الإسلام لينقل البشرية إلى طور جديد غيرت كل وضع أضر بالبشرية حين غياب التغيير الواجب والضروري للارتقاء بالحياة، والذي جاء به الدين، وفي سياق تغيير النفوس من الداخل أولًا، الذي جاء في قول الله تعالى: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال). فالتغيير المراد الذي يحقق للبشر الأفضل يعتمد أولًا على أن يغير الناس ما في أنفسهم تجاه المعاني والأشياء، بل هو تربية النفوس على تقبل التغيير لأنه أداة تطور الحياة اللازم للقضاء على كل ما اعتراها من أوضاع سلبية جعلتها تتغير إلى الأسوأ، ولا ينجح التغيير أبدًا ما لم يتولد في النفوس الرغبة الملحة له، وهذا يحتاج إلى بذل مجهود كبير من كل من له تأثير في الناس عبر ثقافة واعية تدرك ما لهذا التغيير من أثر في تطور الحياة نحو الأفضل، فالجمود الذي يعتري الحياة بافتراض أن الوضع القائم هو خير الأوضاع، وحتمًا في الحياة كما في الدين ثوابت لا يمسها التغيير، ولكنه ينفض عنها ما اعتراها من الغبار الذي غيب عن الخلق محاسنها، ودومًا الرافضون للتغيير والتطور لون من البشر من طول خضوعهم لنمط من الحياة ركنوا إليه عددًا من العقود حتى أصبحت كل دعوة إلى تطوير يرون فيها عدوانًا عليهم، حتى أن التغيير الذي يتم في سياق تطور الأنظمة يحاولون أن يجدوا له ما يشوهه ولو بالزعم أنه يخالف الدين وأحكامه، لتستمر الأوضاع على ماهي عليه، والتي تريح هؤلاء، لعدم قدرتهم على تقبل تطورات الحياة المتوالية، والتي أصبحت العوامل المؤثرة في العصر تدفع إليها بسرعة، والناظر بعين البصيرة سيرى أن التغيير نحو الأفضل هو الذي قاد إلى نشوء كيان الوطن الموحد أرضًا وسكانًا، ثم توالت التطورات بالأنظمة التي صدرت حتى الآن، لتغير كثيرًا من الأوضاع التي كانت سائدة، أما إشاعة أن التغيير يراد به مفارقة الدين أو العدوان عليه فإنما هو وهم متعمد، حتى به يصد التغيير الذي هو حقيقة تطور الحياة الذي لابد منه لتستمر الحياة في التقدم، فالبشر فيهم من تتحكم فيه العادة حتى يرفض كل تغيير وإن كان في الواقع في مصلحته، ألا تسمع إلى من يردد (الله لا يغير علينا) أيًّا كان الوضع الذي هو عليه، وفيهم من يستفيد من جمود الأوضاع على نحو معين، وتغييرها يفقده ميزات سعى للحصول عليها في ظل هذا الجمود، ومن البشر من هو سوي يعلم أن الجمود موت والتغيير حياة فهو يؤيده لأنه يعلم أنه سنة الحياة التي تفتح للناس الأبواب إلى التقدم المعنوي والمادي في الحياة، ويرى هذا ماثلاً في كل التجارب التي مرّ بها العالم، ويعي أن الإسلام كدين صالح لكل زمان ومكان إذا تم فهم نصوصه فهمًا صحيحًا، ولا يمنع التغيير إلى الأفضل في الحياة، لأنه إنما جاء من أجل هذا التغيير، وحتمًا ستتغلب في النهاية هذه النظرة التي تطابق واقع تطور الحياة في كل جوانب الحياة، والتي ملامحها ظاهرة في كل تطور مسّ الحياة في وطننا ولو استمع إلى الطرف الذي يريد للحياة الجمود على واقع هم يرتضونه وإن كان لا يحقق للحياة التطور الذي يدفعها إلى الأمام لما وجدنا على الأرض ما تحقق حتى اليوم من تغيير وإن اتصف بالبطء أحيانًا، ولكنه بوتيرة دائمة ومستقرة، فهلا كف الداعون إلى الجمود، وتركوا حركة الحياة تسير في الاتجاه الصحيح، هو ما نرجو والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: