الافتيات على نظمنا في المملكة

لعله لم يبق على وجه الأرض من يحكم بهذه الشريعة الحنيفية الغراء سوى بلادنا، يعلم بذلك القاصي قبل الداني، وأن كل نظام صدر في بلادنا فهو إما مستنبطة مواده من نصوصها، وإما أن ليس في مواده ما يعارض أحكامها، ولعل كثيرًا من الناس لا يعلم هذا، لأن اطلاعه على نظم هذه البلاد معدوم، فهو لم يقرأ أي نظام منها، ولم يعرضه على أحكام الشريعة، والعَالِم الذي يقصر علمه عن معرفة الواقع، لا يستطيع أن يحكم عليه بعلمٍ وخبرة، حتى وإن كان قاضيًا، قصر علمه على ما في كُتب مذهبه، ولم يتجاوزها، فإذا صدرت منه أحكام جاء فيها افتيات عظيم على نظم حفظت للشريعة أحكامها، ولم تناقض مقاصدها، وأخذت من الفقه أوفقه، للحكم على وقائع العصر، ولكن من افتات عليها، وحكم بأنها أحكام قانون تخالف الشريعة، ظني أنه ما عرف القانون، وما اطّلع على ما في بلاده من أنظمة، ولو عرف الفقه الإسلامي حقيقةً لعَلِمَ أن الأمر الذي لم يرد فيه من الشرع أمر، ولا حظر، يظل على البراءة الأصلية مباحًا، وللحاكم أن يُقيّده بما يفي بمصالح العباد، نحن نعلم أننا بشر، وأنه قد يعتري نموذجنا للحكم بالشريعة بعض الأخطاء غير المقصودة عند التطبيق، ولكنا جميعًا نبرأ إلى الله من أن نعمد للحكم بغير ما أنزل الله، فإذا نص على حكم بنصٍ أو إجماع أمضيناه، وما لم ينص فيه أمعنّا النظر فيه واجتهدنا فيه بما أرشدنا الله إليه، والحاكم إذا اجتهد، فحكم وأصاب أوتي الأجرين معًا، وإذا اجتهد، فحكم وأخطأ فله أجر الاجتهاد، وعُفي عن خطئه، ولكنا في زمن أصبحنا نسمع حتى ممن نتوقع منه علمًا وفيرًا، لأنه قاضٍ يحكم بين الناس، ما يُخالف العلم الصحيح المبني على أسس ومنهج صحيح، أصله مستنبط من نصوص هذه الشريعة، معلوم منها بالضرورة، فإذا بنا نسمع تجهيلًا للأمة كلها ولعلماء جهدوا في أن تكون هذه البلاد نموذجًا لمن يريد أن يحكم بالشريعة، ورأيناه يفتات على الجميع، ويزعم أننا نرضى بحكم قانون يخالف الشريعة، وأظنه لو تريّث وردَّد المسألة في ذهنه، واستعاد علمًا في أصول الفقه، لا أشك في أنه قد اطلع عليه، وعرف الاجتهاد وقواعده، والإفتاء، ولمن يكون، وما يفتى فيه، وما لا يفتى فيه، لاستطاع أن يُحصِّن نفسه من الوقوع في فادح الأخطاء دون وعي، فإذا ترك العلماء الاجتهاد فيما لا نص فيه، تعطَّل -ولاشك- الحكم بشريعة الله، والعلماء المجتهدون بشر، الصواب مُبتغاهم، والخطأ وارد، ولكن يُمكن تلافيه، وتصويبه لا يلزم منه أن يُشنّع على أصحابه، فكيف إذا أفتيت عليهم بلا حق، وكم من كلمة تصرخ في وجه صاحبها، ألا فدعني، فإنك إن نطقت بها أسأت إلى نفسك أشد الإساءة، ونجا من الإساءة مَن ظننتَ أنك تعنيه بها، وتريد الإساءة إليه، وهذا اللون من هذه العبارات كثير في عصرنا، يُردّده بين الحين والآخر، من لا تعرف اسمه إلا حين يتفوّه بهذه العبارات، وتُسجَّل عليه، فإذا به يُسقط نفسه قبل أن يتعرَّف الناس عليه، والتكفير ليس مسألة اجتهادية منوطة بالعلماء، وإنما هو حكم قاضٍ لمن يقدم عليه بتهمة الردة، وهو ما لا يتأتَّى أبدًا في مسائل الاجتهاد، ولعل من قَلّ علمه لا يُدرك هذه الحقيقة، والتكفير أخطر حكم يحكم به قاضِ، ففيه ذهاب الأرواح واستحلال الأموال، والتفريق بين المرتد وأهله، وما أكثر شروره بعد ذلك، لمن وعى أحكام الله وطرائق الوصول إليها، ونعلم يقينًا أن ليس كل صاحب منصب ديني يُحكم له بأنه على صواب دائمًا، فما دام بشرًا، فالخطأ في قوله واجتهاده وارد، وعليه قبل أن ينطق، أن يتأكد من صواب ما يقول، حتى لا يُعرِّض نفسه لكثير مما يضر به، فهل يفعل إخواننا هذا؟، هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: