المبحث الثالث : ميقات العمرة للمكي
مرّ بنا عن قريب في المبحث السابق أن ميقات أهل مكة لعمرة أدنى الحل لحديث عائشة رضي الله عنها حينما اعتمرت من التنعيم , والحديث المرسل عن ابن سيرين قال :وقت رسول الله لأهل مكة التنعيم , ولفعل السلف في عمرتهم في مكة كما مرّ بك آنفاً .
وهو قول جمهور الفقهاء في مذاهب أهل السنة الأربعة , وقد سبق لنا أن نقلنا نصوصاً من أقوال كل مذهب تؤيد ذلك .
ولم ينقل القول : بأن من أراد العمرة من أهل مكة أحرم من موضعه بمكة كالحج , وذلك لاحتياج النسك فيها إلى الجمع بين الحل والحرم قياساً على الحج كما يرى جمهور الفقهاء , ولأن الأجر على قدر التعب فقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله في المكي أنه كلما تباعد في العمرة فهو أعظم للأجر هي على قدر تعبها . وقال عائشة رضي الله عنها : إنما العمرة على قدره , يعني قدر النصب والنفقة .
فإذا كان ميقات أهل مكة للعمرة أدنى الحلّ فمن أحرم من مكة يريد العمرة وجب عليه الخروج إلى الميقات قبل أن يشرع في أفعال العمرة , فإن فعل وأتم عمرته بعد ذلك فلا شيء عليه , أما إن شرع في عمرته وأتمها لزمه الدم لإحرامه بها دون الميقات وأجزأته على أحد قولي الإمام الشافعي , ومذهب الإمام أحمد القول فيه بوجوب الدم لمن أحرم دون ميقاته وإن رجع إليه , وعليه فيلزمه الدم لإحرامه من مكة وإن خرج بعد ذلك إلى أدنى الحلّ , ومذهب أبي حنيفة القول فيه لمن أحرم دون ميقاته يسقط عنه الدم إذا رجع إلى ميقاته ولبى
ومذهب الإمام مالك: أنه إن لم يخرج للعمرة إلى الحلّ أعاد طوافه وسعيه وافتدى.
ويرى الشافعية وكذلك المالكية أن الأفضل في الحلّ الذي يحرم منه المكي بالعمرة : الجعرانة ثم التنعيم ثم الحديبية , وذلك لأن الجعرانة قد أحرم منها الرسول ولأن التنعيم أعمرت عائشة رضي الله عنها منه , والحديبية لعزم النبي الدخول منها إلى مكة لعمرته عام الصلح – والتي صُدّ عنها – واحتسبت له ولأصحابه عمرة إلا أن المالكية جعلوا الأفضلية للجعرانة ثم للتنعيم ولم يذكروا الحديبية لأنهم يرونها من الحرم , ويرى الحنابلة أن الأفضل التنعيم لأن الرسول أمر عبدالرحمن بن أبي بكر أن يعمّر عائشة منه , ثم الجعرانة ثم الحديبية ثم مابعد عن الحرم من الحل , ويرى الأحناف أن الأفضل أن يحرم المعتمر من التنعيم ثم من أي موضع شاء من الحلّ.
والخلاصة أن ميقات المكي للعمرة الحلّ عند الجميع وإن تفاضلت الأمكنة منه لاعتمار النبي أو عزمه على الاعتمار منها أو إذنه بالاعتمار منها .
ولاميقات زماني للعمرة , فجميع أيام السنة وقت للعمرة , فيجوز الإحرام بها في كل وقت من غير كراهة إلا الحاج فلا يصح إحرامه بالعمرة مستقلة مادام محرماً بالحج , ولاشك أن الأوقات تتفاضل , فالعمرة في شهر رمضان أكثر فضلاً وأعظم ثواباً فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله قال : “عمرة في رمضان تعدل حجة”.
وقد اعتمر رسول الله أربع عمرات كلهن في شهر ذي القعدة لفضيلة هذا الشهر , وهو ثاني أشهر الحج المعلومة , ولمخالفة أهل الجاهلية الذين كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض , ويجعلون المحرّم صفراً ويقولون إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر , وذلك كعادتهم في التجرؤ على الله والتحليل والتحريم من عند أنفسهم , فأراد رسول الله إبطال عادتهم الجاهلية باعتماره في ذي القعدة .