مقدمة [ تمهيد ]
المشكلة الأهم في الطرح الإسلامي التنظيري اليوم هي عدم وجود التوافق الضروري على مقومات الدولة التي ينبغي أن يتفق عليها الجميع ويلتزموا بها, ومن أهم الأسباب التي تحول دون التوافق الضروري على مقومات الدولة, أننا لم نحسم بعد العلاقة بين الدولة والدين, وبالتالي بين السياسة والدين, منذ بدأ ظهور الدولة الحديثة في العالمين العربي والإسلامي. بل بقيت هذه موضع اختلاف شديد يتسع حيناً ويضيق حيناًَ آخر, إلى أن تنامى الإسلام السياسي الذي ارتبط بجماعات تتوق إلى الوصول إلى السلطة وممارستها باسم الدين, مما أدى إلى ازدياد هذا الخلاف حتى غدا عقدة استحكمت في الفترة الأخيرة, حتى أصبح الخلاف على طبيعة الدولة وليس على مقوماتها فقط.
فظهرت مصطلحات متعددة متداولة, يكثر ترديدها عبر الأدبيات الإسلامية وليس لها مصطلح واضح بيّن مثل الدولة الإسلامية – الدولة الدينية – الدولة المدنية, وقد يتناول هذا مصطلحي الليبرالية والعلمانية.
ولا تجد عند المختلفين وضوح رؤية حول هذه المصطلحات ومدلولاتها, سوى أن تلمس حين الرضا عن بعضها ثناءً مبالغاً فيه, وتجد عند المخالفة الذم الذي يبلغ حد الهجاء لبعضها أيضاً.
والدولة الإسلامية إذا كان المقصود بها أن مواطنيها مسلمون ويحكمها حاكم مسلم فذاك ينطبق على كل دولة ظهرت منذ بزوغ فجر الإسلام وحتى اليوم.
[ وجود دولة إسلامية ]
أما الدولة التي لها مواصفات خاصة ومنهج حكم متفق عليه طبّق في كل العصور وعبر كل المساحات في الأرض الذي اعتنق أهلها الإسلام فذاك يصعب التأكيد على وجوده, إلا إن كان في ملامح عامة لا تمثل نظاماً أساسياً يمكن تطبيقه في جميع الأحوال وكل الأمكنة..
ذلك أن تراثنا الإسلامي فقير جداً في مجال الدراسات السياسية, والكتب التي يشاع أنها تبحث في علم السياسة مثل كتاب الفقيه الشافعي أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي والذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي, والذي عنوانه” الأحكام السلطانية ” لا يقدم نظاماً سياسياً محدد المعالم, ويمكن تطبيقه, بل لعله قد جعل من الدولة الإسلامية دولة دينية بامتياز حينما قال عن الإمامة[ أنها موضوعة لتقوم مقام النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا], وكذا تبعه في ذلك أبو يعلي محمد بن الحسن الفراء الحنبلي في كتابه الذي حمل نفس الاسم ونفس الموضوعات وإن جاءت الأحكام فيه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل, وحتى أبن خلدون المؤرخ نص على أن الإمامة نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به,.
والحقيقة إن هذه الكتب وكل كتاب في تراثنا يعنى بنظام الدولة ومنهجها ككتب الخراج والأموال, لا تقدم نظاماً سياسياً متكاملاً.
أما التجربة العملية إذا تتجاوزنا العهد النبوي وحكومته الرائدة, فإننا نجد أن من تبعه في الخلافة الراشدة, لم يتول أحد منهم الحكم بنفس الطريقة التي تولى بها من كان قبله,فأبو بكر تولى بيعة سريعة في سقيفة بني ساعدة, كانت أشبه ما تكون بتسوية بين فريقين, أرادا إنهاء أزمة لو استمرت لأدت إلى ما لا تحمد عقباه, والبيعة كانت من بعض من حضر, أما عمر بن الخطاب فتولاها بوصية من أبي بكر الصديق رضي الله عنهما, أما عثمان فاختير من ستة عبر لجنة أوصى بها الخليفة عمر, و تمت البيعة لعلي ابن أبي طالب بعد مقتل عثمان بإلحاح من جلّ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين, وأما من بعدهم فحدث ولا حرج فالبون شاسع بين المناهج في الاختيار وفي ممارسة الحكم أيضاً, وهذا أمر لا يمكن إنكاره, لأنه هو ما حدث فعلاً, والإمامة بعد ذلك عند الطوائف الإسلامية كالمعتزلة الذين لم يخرجوا على ما قاله الآخرون, فهم يثبتون الإمامة بالسمع لا بالعقل, والشيعة على مختلف طوائفهم يعتمدون على النص أيضاً في إثبات الإمامة, ويمنحون الأئمة عصمة, فيجعلون الدولة أيضاَ أشبه ما تكون بالدولة الدينية, ولعل ولاية الفقيه, وإن لم يؤمن بها الجميع, مظهر من مظاهر هذه الدولة الدينية.
وعلى هذا فالدولة الإسلامية,لا يبقى لهذا الوصف من دلالة سوى أنها, دولة مواطنوها يعتنقون الإسلام أو غالبهم, وحاكمها مسلم, وأما الحكم بالإسلام, أي أن يكون دستور الدولة وقوانينها مرجعها الإسلام, فهذا ممكن الوجود, إذا سلمنا بأن استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية إنما هو جهد بشري يقوم به علماء, اجتهادهم غير ملزم, وقد يتغير بتغير الأزمان والأمكنة.
[ الدولة الدينية ]
أما الدولة الدينية فصورتها لن نجد لها في الإسلام أثراً, فمفهوم السلطة الدينية في العصر الحديث مرتبط بالمسيحية, حينما تحالفت الكنيسة مع الدولة الرومانية, حيث أعطت الكنيسة لأوامر الإمبراطور وسياساته وتصرفاته قدسية دينية, لا يجوز الاعتراض عليها أو مخالفتها, ومع مرور الزمن تبلور مفهوم الدولة الدينية في طل المسيحية وتجلى ذلك في مظاهر أربعة :
(1) ان الحاكم يتولى السلطة بأمر الله, ويستمر فيها بإرادة الله, ولا يجوز الاعتراض على أحكامه وسياساته وتصرفاته, فهو يستمد شرعيته من الله ويحكم بالحق الإلهي (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
وهذا المظهر يتبدّى اليوم في فكر تيارات الإسلام السياسي عبر إطلاق مفاهيم بأن العالِم إذا كان بزعمهم ربانياً فهو ينوب عن الله عز وجل ويوقع عنه, حتى أن أحدهم أعطاه حق التشريع كالله الذي شرّع لنا هذا الدين, وقد قدم لكتابه أحد كبار العلماء في بلادنا, وألزم بأحكام هؤلاء الفقهاء أو العلماء الذين نعتهم بالربانيين, ورأى أن مخالفتها خروج عن الإسلام, فهذا تأسيس لفكرة أن العالِم يستمد شرعية كل اجتهاده من الله. ولعل هذا أيضاً صورة لما كان يقال أن الخليفة أو السلطان ” ظل الله على الأرض “.
(2 ) أن السلطة الحقيقية لرجال الدين, وهم في عرف هذه الدولة هم من يمثلون المعرفة المطلقة, وهم الواسطة بين الله والناس, وأحكامهم مقدسة ( صكوك الغفران – محاربة العلم والعلماء – أكل أموال الناس بالباطل عبر الدين ).
ولكل هذا صور اليوم في ما تتحدث به التيارات الدينية وجماعاتها في عالمنا الإسلامي.
(3) الاعتراف بدين واحد واستبعاد كل المعتقدات الأخرى وعدم الاعتراف بها, سواءً كانت أدياناً أو مذاهب داخل الدين الواحد, ولست في حاجة إلى الإشارة إلى أن في بلادنا تيارا يريد أن يلغي تماماً كل تعددية في داخل إطار ديننا الإسلامي, والاعتماد على مذهب واحد, بل يستبعد أعضاؤه كل فهم أو اجتهاد للإسلام لا يمر عبر رؤيتهم الواحدة.
(4) تبني رجال الدين لمفاهيم تطرد الإنسان طرداً من الاعتقاد الصحيح للدين ( مثل عقيدة التثليث, وتبرير ظلم الحكام بمفاهيم دينية محددة, وإسقاط دور العقل, واحتقار الجنس كحاجة إنسانية, وإضفاء القدسية على السلطة الزمنية ). وفي تراثنا وما تردده التيارات الإسلامية شبيه بهذا من وجوه متعددة, حيث يجري تكريس الاعتقاد بأن الأمة كلها في النار سوى فئة واحدة هي الناجية من الهلاك, وهي المنصورة والمهيمنة على كل الفئات الأخرى, وطاعة الحاكم وإن ظلم ظلماً فادحاً أو أهان كرامة مواطنيه فجلدهم وسلبهم أموالهم, فلا يملكون سوى الطاعة.. والحجة في ذلك أن عدم الخضوع للظلم يعنى الفتنة.
وأما العقل فقد بنيت العديد من النظريات لإسقاط دوره, ولا يزال صداها يتردد في أدبيات الدعاة والوعاظ, أما تبرير الظلم وإضفاء القدسية على الحاكم, فحدث ولا حرج.
فهل في الإسلام دولة دينية ؟
الذي اعتقده جازماً أن ليس فيه هذا اللون من الحكم, بل أن من حكمة هذا الدين الحنيف ومحاسن أحكامه أنه لم يشرع لنا نظاماً سياسياً نتبعه, بل تركه لنا لنجتهد فيه لأنفسنا ما يحقق مصالحنا ما دمنا لا نخالف نصاً ثابتاً فيه, ولعل الفهم الأول المتبادر إلى الذهن أن الحاكم عبر كل الصور التي طبقت, هو إنسان عادي, لا يدّعي انه يحكم باسم الله, أو عبر حق إلهي, بل يعلن أنه ليس خيراً من الجميع أو أفضل منهم, وهكذا فهم القضية الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما قال ” وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني “.
والفقهاء عبر ما بنوا من نظريات في الحكم اجتهدوا أن يضعوا للحاكم شروطاً, وأشاروا إلى ما يوجب عزله, بما يعني أنهم فهموا أن لا قدسية له, وليس نائباً عن الله, لهذا شاع في تراثنا أحياناً تسمية الحاكم أو الأمير” أجيراً “, لأنه يعمل عند الأمة لا متسلطاً عليها, وأوجبوا ألا يصل إلى الحكم إلا عبر بيعة, وهذه البيعة لا صورة لها واضحة في تراثنا, كما أن أهلها وهم أهل الحلّ والعقد, لم تعين لهم صفات منضبطة, إلا أنهم يعنون فئة مختارة من الأمة يعرض عليها أمر نصب الخليفة أو السلطان إذا فرغ المنصب ممن يشغله, ويمكن أن يكون أهل العقد هم نواب الأمة, الذين يختارهم عبر آلية الانتخاب الحر, ويترشح لشغل المنصب عدد منهم من الراغبين فيه, ليتم اختيار أحدهم بالاقتراع المباشر.
وحتى لو كانت الدولة ملكية, فيمكن أن يُختار الملك فيها حينما يفرغ منصب ولاية العهد بمثل هذا الاقتراع, ولعل خطوة “هيئة البيعة ” في بلادنا تؤسس لمثل هذا الأمر.
والدولة في صورتها الحديثة لا تتعارض أصلاً مع الإسلام, فإذا كانت دولة مؤسسات فيها سلطة تشريعية ( مجلس شورى ) تختار أعضاءه الأمة باقتراع حر, وتعرض عليه كل أنظمة الدولة وقراراتها الهامة, ويتخذ فيها القرارات الملزمة, ولها سلطة تنفيذية تمارس الحكم حسب الأصول المعتبرة, ولها سلطة قضائية مستقلة, فهي في الحقيقة دولة مدنية لا دينية. ولعل دولتنا في هذه البلاد في الصورة الظاهرة دولة مدنية لا دينية, ومحاولة صبغها بالصبغة الدينية هي محاولة فاشلة لأن التطور يقتضي أن تتجدد أساليب الحكم لا أن تبقى جامدة.
وحتماً صور الحكم في كل بلداننا الإسلامية ومنها بلادنا قد تغيرت كثيراً عما كان سائداً من قبل, وتطورت أشكالها, فلا غرابة أن تصل بنا الحال إلى الاقتناع بأن صورة الدولة المدنية هي الصورة الملائمة للحكم في بلاد المسلمين.
فالدولة المدنية هي دولة يحكمها دستور وقانون, ملكية كانت أم جمهورية, ورئاسية أم برلمانية, سلطاتها الثلاث متمايزة و مستقلة عن بعضها, وإن كانت السلطة التنفيذية منها تطبق النظم التي أقرها مجلس الشورى المنتخب, وسلطتها التشريعية ترسم لها النظم والقوانين, والقضاء السلطة التي تحقق العدل في أرجاء هذه الدولة, وأما كيف يُكتب هذا الدستور, وكيف توضع القوانين فالدولة المسلمة إذا وضعت دستورها راعت فيه أن يكون مصدره الإسلام وتشريعاته, وكذلك قانونها, والذي لا شك فيه أن مجمل الشريعة الإسلامية منه ما جاء نصاً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم, ومنها ما اجتهد فيه العلماء, وما جاء فيه النص هو القليل جداً, أما ما اجتهد فيه العلماء فهو الأكثر, الأول ثابت والثاني متغير, والمتغير هذا هو ما لا ينبغي فيه أن يقال : هذا هو حكم الله, كما يقول أبن القيم مستشهدا على ما يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أمر بريدة أن لا ينزل أعداءه إذا حاصرهم على حكم الله, وقال صلى الله عليه وسلم: ” لأنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم, أم لا, ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك “, فقال أبن القيم : فتأمل كيف فرّق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد,, ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله, واستشهد بما روي أن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لما كُتِبَ بين يديه حكم حكم به فقال الكاتب : هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر, فقال له: لا تقل هكذا ولكن قل هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. فالاجتهاد فعل البشر وليس وحياً من الله, ولهذا قالوا: أن الفتوى هي اجتهاد, لأن بيان ما كان معلوماً بالضرورة من الدين ليس فتوى, وأما الفتوى في الواقعة التي تحتاج إلى اجتهاد فهي الفتوى, لذلك قالوا : الفتوى تتغير بتغير الأحوال والأزمنة والأمكنة فما أجتهد فيه بعصر, قد لا يكون ملائما لعصر آخر, وما كان ملائماً لبلاد قد لا يلائم غيرها, والمجتهدون, الذين بلغوا من العلم قدراً أهّلهم للاجتهاد يراعون كل ذلك فيما يفتون به من مستجد الوقائع و الأحداث, ونسبة كل حكم في الفقه إلى الله, وهو اجتهاد بشر, خطأ في الرأي ويكاد أن يكون كذباً في القول, أما أن المجتهد مرفوع عنه الإثم إذا أخطأ مأجور مرتين إذا أصاب فهذا من يسر هذا الدين الحنيف, فإذا كان الاجتهاد فهم في الدين يعتمد قواعد وأصول, فقد يتعدد ولا أحد يزعم أن ما اجتهد فيه هو مراد الله عز وجل, لذلك قالوا: أن لكل مجتهد نصيب بهذا المعنى أنه يثاب على اجتهاده ولو أخطأ, فهل يتعدد الحق, نعم بهذا المعنى يتعدد, ولو أننا أدركنا هذه المعاني ورفعنا عن أنفسنا الحرج لاستطعنا أن ننطلق نحو تأسيس فكر سياسي ننافس به الأمم.
وهنا أجد لزاماً علي أن أعرض لقضية تمس الحاجة إلى بيانها, وهي كل من تحدث عن قضايا تمس الدين في زماننا هذا وجد من يقول له أنك غير مختص, لأنك لا تحمل مثلاً شهادة جامعية أو درجة علمية أعلى في الشريعة, وما كان هذا التخصص معروفاً من قبل وكل الذين أخذنا عنهم العلم أو تتلمذنا على كتبهم لم يعرفوا هذا التخصص بهذا المعنى, وإذا أريد بالتخصص أنه قد تلقى العلم ومارسه وقرأ مصادره, فهذا كل أحد قادر عليه ويمكنه فعله, فتحصيل العلم الشرعي ليس مقصوراً على من يحملون الشهادة فيه والذي يحب أن يناقش هو صحة ما يقوله من يريد الاجتهاد وأدلته, دون محاولة الإقصاء بالقول أنه غير متخصص ( الألباني مثالاً ).
ولكن هل يفترض في الدولة المدنية أن تكون دولة علمانية ( بمعنى دنيوي ) أقول نعم فالدولة المدنية خاصة عندما تكون لبلد فيه تعدد أديان, لا بد أن تكون محايدة تجاه الأديان, وإلا لمارست أحادية بقبولها لدين وإقصاء دين آخر, وإذا كانت في بلاد لا دين فيها سوى الإسلام فلا حاجة أصلاً لحديث كهذا, والعلمانية لا تنشأ في ظلها إلا الدولة المدنية, وهي لا تمارس أصلاً الانحياز إلى دين دون الآخر بل تطلق الحرية إلى أن يعتنق الناس أديانهم ويمارسوا عباداتهم في ظلها, دون أن يمارس عليهم اضطهاد أو إقصاء, والملاحظ أن الأديان لها الحرية التامة في المجتمعات العلمانية, ويمارس على بعضها الإقصاء في المجتمعات التي تزعم أنها دينية, وهي من المفارقات الشديدة التناقض, ولعل المنتمين إلى الجماعات الدينية في بلادنا الإسلامية الذين فروا إلى الغرب يدركون ذلك تمام الإدراك, فلولا ما حدث في 11 سبتمبر عام 2000 لبقي الحال على ما هو عليه حتى اليوم, ولعل الذين تعرضوا للمضايقات في الغالب هم المتعاطفون مع جماعات العنف أو المنتمون إليها.
فالدولة المدنية هي دولة ديمقراطية, والشورى في نظري هي ديمقراطية محترمة إذا كانت ملزمة لا معلمة وإذا كان أعضاء مجالسها منتخبين, أما كونها معلمة فهو تفريغ للشورى من محتواها, الذي جاء الأمر بها في كتاب الله ملزماً بحسب القواعد المرعية في أصول الفقه.
سادتي إن الدولة المدنية هي الخيار الذي لا خيار سواه في هذا العصر, فالدولة المدنية دولة المؤسسات التي لا يمكن للفرد فيها أن يتسلط على سواه, ولا يمكن للحكومة إلا ان تكون خادمة لشعبها لا متسلطة عليه, وحرية التعبير فيها متاحة كوسيلة مثلى للنقد الهادف الذي به يتم الإصلاح لأنه يكشف مواطن الخلل والخطأ, ويكشف عن مواطن الظلم والفساد, والزعم بأن الدولة المدنية بهذه الصورة خطر على الإسلام أو يراد بها إقصاءه عن حياة المسلمين إنما هي دعوى لا تقوم على دليل, والمراد بها أن تبقى مجتمعات المسلمين تعاني الجمود والتخلف في ظل استبدادية أنظمة حاكمة عطلت الحياة في كثير من بلداننا المسلمة.
ولست أقول أن الدولة المدنية حل سحري لكل مشاكلنا, بل هي الخطوة الأولى نحو مستقبل ناضلت من أجله شعوبنا طويلاً لتستحقه, لتعيش في ظل حرية تبني الحياة ولا تهدمها, ودعونا نعرض عن عبارات تتردد لتعيق كل حركة نحو المستقبل من القول بأن الحريات الأساسية التي اتفقت عليها البشرية كلها على اعتبارها حقا لا ينتهك, من مثل القول بأن الدعوة إلى الحرية إنما تعني حرية مطلقة تؤسس كما يزعمون للفساد والإلحاد, فليس في هذا العالم المعاصر الذي نعيش فيه حرية مطلقة بهذا المعنى, وإن زعموا, فما الدساتير والقوانين في العالم إلا لمنع الفوضى, بل إن الفساد والإلحاد لا ينتشران ألا في غياب هذه الحريات.