بسم الله الرحمن الرحيم
حمزة شحاته الشاعر الفيلسوف
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه أجمعين وبعد: ما كان لمثلي ألا يستجيب لدعوة مركز الشيخ حمد الجاسر لإلقاء هذه الورقة على مسامع هذه النخبة المتميزة من صفوة مثقفي الوطن, وأنا من ظل منذ الشباب متابعًا لكل ما كتب علامة الجزيرة أو ألف, معجبًا به وبفكره قبل أن ألقاه وبعده, فقد رأيته أول مرة وتعرفت عليه في مكتبة السيد المؤيد بالطائف, والتي كانت ملتقى نجوم من مثقفينا الأوائل, فلم أترك بعدها فرصة تسنح لي أن أزوره وأتحدث إليه إلا فعلت, حتى كان اللقاء في بيروت والذي استمر زمنًا.
المراحل
واليوم وأنا في خمسيته أتحدث عن رائد مثله فقدناه قبل أيام هو أستاذي عبدالله أحمد عبدالجبار الشخصية التي ما أن تعرفها حتى يتمادى بك الإعجاب بها حتى تتخذها لك قدوة, في جوانب كثيرة من الحياة منها جانب الإصرار على قيم علمية مثلى في الطب أولًا, ثم في التعليم ثانيًا.
فقد ظهر عليه النبوغ باكرًا منذ كان يتردد على الكتاب, ثم تميز عند الالتحاق بالمدرسة الابتدائية, ثم عند ارتياده أولًا مدارس الفلاح ثانيًا, ثم الفخرية بعد وحتى التحاقه بدار العلوم بالقاهرة.
ثم يوم أن عين مدرسًا بمدرسة تحضير البعثات والمعهد العلمي السعودي, حيث برز معلمًا للغة العربية, ثم مدرسًا للتربية وطرق التدريس, وظل الإعجاب به بين تلاميذه صداه يتردد حتى هذه اللحظة, واسألوا من يعيش بيننا منهم يخبروكم عن مزاياه.
وجانب آخر من الإصرار على المواقف إذا كان قد بناها على مبادئ وقيم عليا, فله من قوة الإرادة وقوة الشكيمة, ألا يتزحزح عن مواقف يرى أن الحق فيه, ولعل هذا هو ما جعله يتعرض لكثير من المشكلات في مفاصل عدة من حياته.
مراحل حياته
وقد مر أستاذنا الجليل -يرحمه الله– في مراحل ثلاث:
الأولى:كان فيها وهجه يجذب الناس إليه لنبوغه, وعبقرية ظهرت عليه وهو يعلم ويؤلف, يصادق ولا يعادي, يوم أن أتم التعليم ثم مارس التربية والتعليم وبرز في هذا المجال, وحتى وصل مديرًا للبعثات بمصر يوم أن لم تكن لنا بعثات إلا إليها, وهناك كان نجمًا, أسس مع بعض أصدقائه المصريين رابطة الأدب الحديث, وكان له صالونه الأدبي الذي يجتمع فيه مثقفون عرب ومصريون وسعوديون إذا زاروا القاهرة ورأى الفرق الأولى من المبتعثين السعوديين, الذين حفظوا له الكثير من الود, وعرفوا له الفضل ولم يشفع له ذلك كله حينما غضب عليه فألغى منصبه وسحبت منه جنسيته, ثم جاءت الصدمة الأخرى بسجنه في مصر مع بعض المثقفين المصريين والعرب, ممن كانوا يرتادون صالونه, فالمعروف عن أستاذنا أنه عروبي الوجه والاتجاه ولكنه في ذات الوقت يقدس الحرية, فلم يكن يحجر على أحد أن يبدي رأيًا في صالونه, وهذا ما جعل زوار الفجر يجمعون رواد صالونه ويودعونهم سجون الاعتقال فلما أفرج عنه لم يطق البقاء في مصر, ورحل مهاجرًا إلى بريطانيا حيث عاش هناك عشر سنوات عجاف, وحينها عمل في معهد اللغة العربية لغير الناطقين بها, ولعله ألقى دروسًا في معهد تابع لسفارتنا, وهذه هي المرحلة الثانية القاسية في حياته وتأتي المرحلة الثالثة بزيارة ولي العهد الأمير فهد بن عبدالعزيز لبريطانيا حيث تحدث إليه الخيرون المخلصون من أبناء الوطن, والذين يعملون في سفارتنا في لندن عن الأستاذ عبدالله بما انتهى بالأمر بإعادة جنسيته إليه وفتح أبواب البلاد أمامه للعودة إليها إن شاء, فنقلت مكتبته التي كانت في مهجره إلى جدة, بعد أن تبرع بمكتبته الأولى لجامعة الملك عبدالعزيز في جدة, التي لم يلبث أن عمل مستشارًا لها, وفي الحالين بقي عبدالله عبدالجبار الرجل الحر, ذو المواقف المبدئية الثابتة, القوي الشكيمة الذي لا يتراجع عن رأي أبدأه وبناه على علم ومعرفة, وموقف اتخذه لأنه يرى الحق فيه, ولما انتقل إلى شركة تهامة مستشارًا لها, وجد مثيلًا له ممن يقدس حرية الرأي والفكر, ذاك هو الأستاذ محمود سعيد طيب, وهو الرجل الذي كان رفيق حياة الأستاذ عبدالله الثانية في بلاده, منذ أن عاد إلى المملكة وحتى توفاه الله.
ولما عاد الأستاذ عبدالله إلى وطنه خاصة بعد تقاعده واعتزل الناس متأثرًا بما ناله بما يكره, ظل يبتعد عن الناس إلّا من فئة قليلة من أبناء زملاء له من أمثال الدكتور أسامة إبراهيم فلالي, ومحمد أحمد العربي, ومحم شوقي عبدالوهاب آشي, وحمزة إبراهيم فودة, وأمثالهم, ومدير الجامعة آنذاك والأستاذ محمد سعيد طيب, ومعه رجل نبيل أصيل هو الأخ الكريم الأستاذ محمد حافظ الذي ظل يقوم بشأن الأستاذ كله, ثم انضم إلى هذه الفئة بعض من أشاروا بهم عليه من أمثالي, وكان مجلسه يوم الثلاثاء مساء ثم يوم السبت إنما يحضره هؤلاء, وبعض تلاميذه ممن كانوا يزورونه بين الحين والآخر.
ففي هذه الفترة كان عزوفًا عن الحياة الاجتماعية, ولكنه القارئ الذي يصرف وقته كله في مكتبته, التي تحتل في بيته كل الغرف والصالات والممرات.
وقد عرفته عن قرب في هذه الفترة قبل ما يزيد عن عقدين, واقتربت منه أكثر فأكثر فأنس بي وأنست به, فكنت من مجموعة تلاميذه المقربين له, والذين ينعتهم بأعز الأصدقاء, ورأيت فيه هذا الطود الشامخ الذي لا تهزه الأحداث, المعتز بنفسه في غير كبر, العالم الذي بلغ الغاية في تخصصه لغة وأدبًا ونقدًا, والمفكر الحر الواعي لمقتضيات عصره, والوطني المخلص الذي يحتضن الوطن في قلبه, كل همه أن يسعى بكل جهد لرقيه, أهله كلهم هم أهله الذي لا يفرق بينهم عصبية لمنطقة أو إقليم كما لم يعرف قط التفرقة لمذهب أو جنس.
عرفت فيه الرجولة التي لا تهتز مهما قست الحوادث أو أقبلت النكبات وعرفت عنه عفة اللسان وحسن المسلك, والنزاهة في الحكم.
مجموعته
وظل أستاذنا الجليل يرفض أن يعاد طبع كتبه, وأن يطبع منها ما لم يطبع, وما كنت أظن أنه مجيز لنا الجهد لإخراج مجموعته الكاملة لولا أنه طعن في السن, فضعفت ممانحته بعض الشيء, ولحبه لتلميذه معالي الشيخ/ أحمد زكي يماني وزير البترول والثروة المعدنية الأسبق, والذي كانت أمنيته أن ينفق على هذا المشروع الوطني, ولما حصلت على أذن خطي من الأستاذ أن أتولى مع أخي الأستاذ محمد سعيد طيب طبع مجموعة من مؤلفاته الكاملة, رأينا جميعًا نحن المحيطين به أننا أنجزنا أهم خطوة لإخراجها للناس, ولما حملت النبأ لمعالي الشيخ/ أحمد زكي يماني رأيته وقد سرّ سرورًا عظيمًا, ولما بدأنا العمل في تتبع مجموعة المؤلفات وما أبدع من قصة ومسرحية وما ألقى من محاضرة أو كتب أو مقالة, أو مقدمة لمؤلف آخر سعى إليه ليقدمه للناس, حاولنا أن يكتب إلينا أخواننا بما يجدونه متعلقًا بهذا الرائد الكبير كتبه أو كتب عنه, فلم يستجب منهم إلّا القليل, الذي وجدنا ما عنده في الغالب قد اجتمع عندنا, ولكنا بعض ظهور المجموعة وجدنا كل من كتب مقالة عن الأستاذ أراد منا أن نبحث عنها ونضمها إلى مجلد ما كتب عن الأستاذ, حتى وإن كان لم يعرف الأستاذ قط ولم يقرأ له.
ولكن كان همنا أن نخرج المجموعة هذه للناس, وقبل وفاة أستاذنا الجليل لنفي له بعض ما طوق به أعناقنا علمًا ونصحًا, فهو المحب لتلاميذه المسدي لهم النصح, يمنحهم من علمه وفكره ما بظنهم في حاجة إليه.
وما أجملها من لحظات تلك التي قضيناها معه بعد أن تم طبع المجموعة وذهبنا إلى منزله نهدي إليه هذا الجهد ونرى البشر يعلو محياه.
المؤلفات
ولا أظني في حاجة أن أطيل الحديث عن هذه المؤلفات, وجلكم اليوم تعرفونها وعلى رأسها كتاب “التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية” والذي أصله محاضرات ألقيت على طلاب قسم الدراسات الأدبية واللغوية بمعهد الدراسات العربية العالية, التابع لجامعة الدول العربية, وهو جزءان أحدهما وهو الخاص بالشعر طبع في القاهرة عام 1959م, والثاني الخاص بالنثر ولم يطبع حتى تم طبعه ضمن المجموعة, ولكن الكتاب بجرأئه كان أول دراسة عن تاريخ الأدب السعودي ونقده, وظل المرجع للدراسات النقدية لكل البحوث التي صدرت بعده عن الأدب السعودي, وحتى أيامنا هذه ولن تجد إلا في النادر دراسة لم تفد منه, ولم تضمه قائمه مراجعها وكان الجزءان يصوران وتتداولهما الأيدي منذ صدور نظام الجزء الأول وحتى زمن طبع المجموعة.
وأما الكتاب الثالث في المجموعة فهو قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي والذي شارك الأستاذ في تأليفه أحد أصدقائه هو الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي والذي لم يكتب منه إلا صفحات قليلة, والكتاب دراسة عن الحجاز تنم عن علم راسخ, ومعارف شتى, ببيئة الحجاز الطبيعية وأقسامه وجولوجيته وأعصرها وكل ما فيه من ناحية الجغرافيا, وآثاره القديمة, وثروته الزراعية والحيوانية وثرواته المعدنية, ثم مدنه وقراه.. وسلاسله الجبلية, وقبائله, ثم أدبه والعوامل المؤثرة فيه.. أهمية موقفه وتاريخه السياسي والحياة الاجتماعية فيه وأسواقه التجارية, والحياة الدينية فيه, ثم شخصياته وفنون النثر فيه والحكم والأمثال والشعر بأنواعه والموسيقى والغناء وخصائص الشعر.
وهذا الكتاب لا أظن أن أحدًا كتب عن الحجاز مثله من قبل, ولعل إعادة طبعه في المجموعة تلفت النظر إليه وتتم دراسات حوله.
وقد اشتملت المجموعة على مجلد ضخم ضم محاضرة الأستاذ التي ألقاها في مؤتمر الأدباء العرب ببغداد عام 1965 عن الغزو الفكري, والتي عدد فيها ألوان الغزو التي استحدثها الاستعمار منها الغزو الثقافي وتلمس صوره عبر الاستعمار الانجليزي والفرنسي والإيطالي, ثم نشره الحركات المشبوهة كالبهائية وحركة القوميين السوريين, ثم غزو الكيان اللغوي بالدعوة إلى العامية وبالدعوة للكتابة بالأحرف اللاتينية, ثم تحدث عن الغزو بالسلب والذي عنى به تشجيع هجرة العقول العربية إلى الغرب, ثم تحدث عن مقاومة هذا الغزو مفرقًا بين الغزو والتأثر به.
ثم في ملمح عن المقاومة تحدث تحت عنوان من حزيران إلى رمضان, داعيًا إلى انتفاضة تعيد للعروبة مكانتها.
كما اشتملت على قصصه (أمي – العم سحتوت – سائق البريد) كما اشتملت على مسرحيته (الشياطين الخرس).
واشتمل هذا المجلد أيضا على المرصاد وتعليق الأستاذ الكبير عليه وأستاذنا الجليل حر الفكر جريء في طرح أفكاره التي تناقش قضايا الأمة والوطن ومن قرأ كتابه الأول (التيارات الأدبية) سيجد هذا النقد الجريء والنزيه لأوضاع كانت موجودة حين تأليفه, وفي المسرحية (الشياطين الخرس) شيء من هذا يبرز واضحًا في ما تخيله يحدث في مجلس شورى ذاك الزمان فهو يقول في نهايتها على لسان أجرأ شخوصها (نضال) وقد يأس من الإصلاح وقبل استقالته رئيس المجلس وثنى على ذلك الأعضاء: [اكتبوا ما شئتم فأنا خارج, خارج لألقى الناس الذين يعيشون بوجه واحد, الذي يعيشون لرأيهم وبرأيهم, إنني خارج هكذا مرفوع الرأس كما دخلت, لأنني لم أحنِ هامتي قط في حياتي, كما يفعل الأنذال الجبناء]. وأظن أن من يقول هذا هو أستاذنا الجليل لا تخص مسرحيته فهو لم يحن الهامة لأحد قط, عاش مع الناس وللناس, يهمه أمرهم, ويتمنى لو يدفع عنهم الأذى.
لذا تحمل الكثير من أجل ذلك, وما قصة هذا الشيك الذي يتردد الحديث عنه عنا ببعيد فلما أرسل إليه خادم الحرمين الشريفين ما ظن أنه يعينه به على حياته لم يستطع قبوله, وآثر أخير ألا يرده, ولا يصرفه أبدًا, فظل حبيس كتاب مع كتبه التي يقرأ فيها حتى وافاه الأجل فما كان يرى أن يقبل مالًا لا يظنه يستحقه, وإن كان عن أذى ناله, فكرامته لا تقدر بثمن, بل هي فوق الأثمان كلها, وهكذا عبدالله عبدالجبار عاش لا يقبل من أحد منة, وقد كان بين تلامذته رجال أعمال ووزراء وسفراء, والخيرون منهم كانوا يتمنون خدمته وأن يبذلوا من أموالهم ما يعينه على الحياة, ولكنه لم يقبل قط مساعدة من أحد, وقد توسل إلى بذل المال له الكثيرون, فكان الاعتذار بالكلمة الرقيقة الطيبة ثوابهم.
وكان على قلة دخله يصرف على اجتماعنا به في مساء كل يوم ثلاثاء ثم مساء كل يوم سبت ويرفض أن يشاركه أحد في ذلك, بل إنه إذا كلف أحدنا بأن يشتري له كتابًا أو يحضر له شيئًا من السوق لم يرض أن يأخذه إلا إذا قبض أحدنا ثمنه منه, عزة النفس فيه لا حدود لها, لذا قال تلميذه معالي الشيخ/ أحمد زكي يماني: (الأستاذ عبدالله عبدالجبار نادر في عفة النفس وكبريائها, وفي تواضع نادر) وكيف تجتمع كبرياء النفس مع التواضع, تلك هي صناعة لا يحسنها إلا مثل أستاذنا عبدالله عبدالجبار حينما كان في الجامعة مستشار ووجد نفسه لا يعمل رفض أن يستلم مرتبه وترك العمل بالجامعة.
وحينما كنا نجمع مقالات الأستاذ, ولأن العهد بما كتب الأستاذ بعيد, وقد تناثر ما كتب عبر صحف عربية ومحلية, حاولنا الوصول إلى أكبر قدر منها ولم نحصِ, ومن أدعى أن عنده شيئًا من تلك المقالات لم ينشر فليدلنا عليه فلا نزال نوالي طبعات لمجموعته متعددة, ولكن القول كثير والعمل عند كثير من الناس قليل.
ومن أشهر مقالاته تلك المقالة التي عنوانها (أديب الساعة الخامسة والعشرون) والتي بدأها بقوله: (أيها الأديب الجديد في بلادي وفي دنيا العروبة جمعاء, لقد دقت الساعة الخامسة والعشرون مؤذنة بميلاد حياة جديدة وأدب جديد فهل تسمعها). وقبل الختام قال: (يا صديقي لقد جرى عرف الناس جميعًا على أن اليوم أربعة وعشرون ساعة, ولكن الحياة العصرية الجديدة في عصر الأقمار والصواريخ والسرعة الجنونية واللهات, عصر الأعصاب الممزقة, خلقت أبعادًا جديدة لإنسان القرن العشرين, حتى ليشعر الإنسان العصري وهو في نطاق اليوم العادي أنه خارج هذا النطاق, يحس أنه في ساعة جديدة بعد الساعة الرابعة والعشرون هي الساعة الخامسة والعشرون).
وما بين البداية والنهاية حشد نصائحه للأديب الجديد كيف يتعامل مع هذا العصر الجديد في سرعته, وكيف يلاءم بين الماضي المؤثر الذي له في نفسه حيز وبين متطلبات عصره.
وفي مقالاته بحوث عن شعراء عمالقة, وبحوث نفسية عن مركب النقص وأثره في المبدعين, ومقالات في النقد, ومقالات تربوية, ومقالات مترجمة والأستاذ يرحمه الله كان ملمًا باللغة الانجليزية والفرنسية والألمانية والفارسية وقد وجدنا مقالات ترجمها عن الألمانية, ولما سألته عن إلمامه بهذه اللغات قال تعلمت منها شيئًا ولم أبرز فيها, ولكني أستطيع أن أقرأ وأترجم.
والذين كتبوا عنه منهم من عرفه وقرأ له, والكثيرون زمن ظهور الملفات لم يعرفوا ولم يقرأوا ولكنهم تطوعوا بالكتابة عنه ليلتحقوا بغيرهم. والأستاذ له مقدمات كتبها لمن طلب منه أن يقدم كتابًا له وجلهم من زملائه ومجايليه, فكتب مقدمة لكتاب زميله وصديقه الأستاذ محمد عبداللطيف السحرتي (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث) فجاءت في خمسة وخمسين صفحة وكأنه كتاب في ذات الموضوع يوازي كتاب المؤلف, وكتب مقدمة لكتاب معدود الصفحات ثرى المعلومات لأديب سعودي متميز هو الأستاذ عبدالله الخطيب عنوانه (كيف كنا) وكتب مقدمة لديوان صديقه الشاعر إبراهيم هاشم فلالي المعنون (طيور أبابيل) وجاءت المقدمة في تسع عشرة صفحة دراسة كاملة عن الديوان والشاعر, وكتب مقدمة لصديقه الآخر الشاعر الفيلسوف (حمزة شحاته) في أحد عشر صفحة لكتابه (حمار حمزة شحاته) وهو مقالة طويلة, وكتب مقدمة لكتاب (شعر اليوم) للأستاذ مصطفى عبداللطيف سحرتي في خمسة عشر صفحة, وكتب لديوان (الموانئ التي أبحرت) للشاعر أنس عثمان مقدمة في ثلاث وثلاثين صفحة في قراءة متأنية للديوان لا تصدر إلا عن مثل أستاذنا الجليل عبدالله عبدالجبار, وهكذا بقية المقدمات, وهذه المقدمات دلتنا على إبداع كان غائبًا عنا حتى قرأناها.
وهكذا هو الأستاذ عبدالله عبدالجبار لم يتوار عنا أبدًا, حتى وإن اعتزل الناس في فترة من الزمن, ظل ذكره على الألسنة والأقلام, رغم أنه كف منذ زمن طويل عن الكتابة, ولم أر أحد من تلاميذه الذي درسهم في مدرسة تحضير البعثات أو في المعهد العلمي إلا وهو يحفظ له الود والوفاء ويزوره, وكنت أرى في مجلسه الوزير والسفير ورجل الأعمال والموظف الكبير, هو من عرفته متواضعًا لا يغريه بالكبر والفخر شيء أبدًا.
يقول علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر رحمه الله عن أستاذنا عبدالله عبدالجبار [الأستاذ عبدالله ذو المواهب متعددة, فهو من رواد كتاب القصة في البلاد, ينحوا معالجة إصلاح القضايا الإجتماعية, وهو كاتب مسرحي ولعله من أول من طرق هذا الجانب الأدبي بين كتابنا, إن لم يكن أولهم, وهو يعد على رأس النقاد بين أدباء البلاد, الذين لا تعوزهم النزاهة والجرأة والصراحة, وله مقالات في هذه الناحية نشرت في الصحف ومشاركة في بعض القضايا الأدبية, هو حقًا ناقد جرئ, لكنه مع ذلك يتصف بالحكمة وسمو الغاية وعدم التحيز].
وهي كلمة حكيمة من رائد حكيم, لا يقول إلا ما يرضي ضميره, وما يصف به شيخنا الرائد الجاسر نقد أستاذنا بأنه جرئ ولكن لا تفارقه الحكمة وسمو الغاية وعدم التحيز, هو ما يلحظه له كل قارئ, ويعرفه عنه كل من اقترب منه, حتى الذين أساءوا إليه لم يبادلهم الاساءة ومجرد أن يعتذروا إليه يعفو عنهم, أما إذا باشر قراءة نص لهم فهو المنصف العادل.
ولعل هذا هو ما جعل تحفة تلتف حوله على مدى العمر تواصل الاتصال به وزيارته كلما سنحت لها الفرصة.
ونحن الذين مثلنا الدائرة القريبة منه جدًا أحببناه ولم ننقطع عن زيارته حتى وافاه الأجل, ولقد شعرت عندما أنبأت بوفاته أنها الوفاة الثانية لأبي, فقد كان رحمه الله عطوفًا على محبيه, يمنحهم النصح مخلصًا ويهون عليهم المصائب إذا حلت بهم, وله قدرة عجيبة على مواجهة الهموم مهما ثقلت, وعنده لكل منها علاج يزيلها.
ولما انتقل إلى مكة ليقيم عند بنت أخته الأستاذة الجليلة الدكتورة فاطمة سالم عبدالجبار أستاذة الأدب بجامعته أم القرى, وزوجها المهندس جميل مندورة وأبنائهما, وقد خدموا أستاذنا في سنوات عمره الأخيرة خاصة عند اقترابه من التسعين من سنى عمره المديد رحمه الله, وطوقوا أعناقنا نحن الذين أحبوه, بعد أن فتحوا دارهم لزيارته والالتقاء به, وإحضاره كلما تحسنت صحته إلى منزله في جدة, هذا المنزل المكتبة والذي آلت كتبها إلى جامعة أم القرى مؤخرًا بعد وفاته, والتي نرجوا أن تكون متاحة للقراءة فيها من المصادر العلمية والأدبية النادرة والتي لا تجد لها مثيلًا في مكتباتنا العامة أو مكتبات جامعتنا, وأما أوراقه الخاصة والتي آلت لمؤسسة الفرقان للتراث, والتي أظن أننا سنجد فيها الكثير مما يستحق النشر, إلا ما حرص هو على عدم نشره, خاصة تلك الأوراق التي تخص صديقه الحميم الشاعر حمزة شحاته, والذي كان في كثير من الأحيان يحرق بعض ما كتب شعرًا ونثرًا, وكنا لما نصر على أستاذنا عبدالله عبدالجبار أن يطلعنا على ما تركه عنده خاصة قصائده, يرد علينا لن تطلعوا إلا على ما رضي هو أن ينشر, فله وصايا ألا تنشر بعض قصائده أو نثره, ولعل أستاذنا الجليل مثله, فله شعر لم نستطع أن نحصل على شيء منه سوى ما نشرناه في نهاية مجلد مقالاته, مع أننا على يقين أنه قد اخترنا الكثير منها.
رحم الله أستاذنا وغفر له, ورحم من اجتمعنا في داره اليوم الشيخ حمد الجاسر.
ولعلي قد قلت ما فيه تجلية خاصة لما غاب عن الناس من خلائق الأستاذ عبدالله عبدالجبار ولم أضع أوقاتكم, وشكرًا لكم..
الشريف/ عبدالله فراج العبدلي