في زمن مضى لعله ليس بالبعيد, دعاني أحد الزملاء, ونحن آنذاك في مقتبل العمر, لحضور مجلس إحدى الشخصيات الكبيرة, وقال: لقد حدثته عنك, ويرغب في أن تحضر مجلسة الأسبوعي, فاعتذرت بأني إنسان لا أستطيع أن أجامل أحدا إذا طرحت مسألة فيها حق وباطل, فإني حينئذ أجد نفسي مرغما على أن أنطق بكلمة الحق, وأنا أعلم أنها مرة, قد لا يستسيغها كثير من الخلق, فتوجد بين قائلها وبينهم شرخًا, يظلون يذكرونه له أبداً, خاصة إن كانوا ممن لهم التأثير في الرسميات, ورغم أني منذ تخرجت في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة, قد مارست العمل التعليمي والتربوي,
وعلى مدى أربعة وثلاثين عاما ولم أفكر قط في أن أسعى إلى منصب غير أن أكون معلما سواء عندما كنت أدرس في التعليم العام أم في التعليم الجامعي في كليات المعلمين, فقد طلبت العلم صغيرا في الكتاتيب, ثم في المدارس النظامية, وفي حلقات الدرس أجثوا على ركبي بين يدي العلماء, ولم أتخير بينهم فكنت أحضر دروسا وأقرأ أحيانا لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتى الديار آنذاك,و أحضر مجلس الشيخ عبدالملك بن إبراهيم وأسمع لغيرهم من علماء الدعوة دروسا, كما أحضر دروساً وأقرأ كتباً لعلماء مدينتي أم ألقرى, وآخذ عنهم مروياتهم بالسند, من أمثال أصحاب الفضيلة المشايخ, الشيخ علوي عباس المالكي, والشيخ حسن محمد مشاط, والشيخ محمد العربي التباني, وغيرهم كثير ممن كان لهم في ساحات الحرم المكي وأروقته حلقات درس, اختفت بعد ذلك في الثمانيات الهجرية, ورحلت إلى مجالسهم في منازلهم, ثم بعد أن التحقت للدراسة بدار التوحيد أخذت مع زملائي العلم على يد بعض علماء الأزهر الأفذاذ, وواصلت بعدها عندما التحقت بكلية الشريعة عنهم ممن تتلمذنا على أيديهم في الدار ثم الكلية, ثم من أرشدونا إليهم من أفذاذ علماء الأزهر الشريف, والذين لا تزال ببعضهم الصلة قائمة, وكنت دوماً أستزيد من العلم, وأعكف على مصادره العمر كله, وعيني على أبناء وطني أن أفيدهم بما اكتسبت من علم, تفوقت فيه بحمد لله, ولم أرغب قط في أن أتخذ من علمي وسيلة للحصول على أي مكاسب مادية, بل رسخ في أعماقي أن العلم لا يقدر بثمن من مال أو وظيفة, وإنما قيمته تكمن في ما ينتفع به الناس, أما ثوابه فعند الله عز وجل عظيم, لهذا ما أن حضرت ذاك المجلس الذي دعاني إليه زميلي, وأصر أن أحضره, إلا وغادرته وأنا عازم ألا أعود إليه, فهو لا يناسبني وأنا لا أناسبه, وحرية الرأي التي تكفلها الشرائع الإلهية والشرائع البشرية كافة, ويعشقها الكثيرون, لكنهم إن نادوا بتوفيرها فهم يتصورون أن توفر لهم وحدهم, أما من يخالفهم الرأي فدوما رأيه خطر يجب مقاومته, لهذا فهم يسعون بكل ما أتوا من قوة أن يكمموا فمه مع أن الأمم التي تقدمت وسبقتنا في هذا العصر لبناء الحضارة الإنسانية, إنما أهلها لذلك مراعاتهم للحريات العامة وعلى رأسها حرية التعبير, فهم يحرصون أفراداً وجماعات أن يظهر الرأي المخالف لهم مع رأيهم, لأنهم يعلمون ألا أحد من البشر على صواب دائم, وغيره ممن يخالفه الرأي على خطأ دائم, لهذا هم يتقبلون الرأي الآخر, ولا يغني ذلك أنهم يعتنقونه ويتركون ما كان لهم رأي يعتقدون أنه الصواب, لكنهم يتركون لجمهور الناس أن يطلعوا على الرأيين وينتخبوا الأصلح منهما, هكذا هي الحياة الفكرية في أمثل صورها, ورحم الله من قال: إن رأيي صواب يحتمل الخطأ, ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب, ويلزم نفسه بالنظر في كل رأي يطرح, فإن علم أن رأي غيره هو الصواب قبله, وإن لم يكن رأي غيره سوى خطأ محض حاول أن يهديه إلى الصواب دون أن يهجوه أو ينتقصه أو يتهمه بعظائم الأمور, هذه هي أخلاق العلماء وعكسها أخلاق أرذل الخلق, عفا الله عني وعن أخواني القراء وجعل مبتغانا الحق نتبعه دوماً إنه سميع مجيب.