إن الأمانة صفة للمؤمنين الممتثلين لطاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فربنا عز وجل يقول: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا), وتحمل الأمانة من أعظم ما كلف به الإنسان, وهو أشد الخلائق بها ابتلاء, فقل من الناس من يحفظها ويؤديها إلى أهلها والأمانة تتعدد صورها, ومن أعظمها الأمانة العلمية, فإذا نقل المؤلف من كتاب وجب أن يذكره ويشير أنه نقل عنه, وإذا أخذ أفكارا عن أحد اعترف بذلك وذكره في كتابه ممتنا له, ولكنا في عصور تضيع فيها الأمانات, فكتب سلف علماء الأمة الأفذاذ يعبث بها,
فيسقط منها عند الطبع مالا يتوافق مع مذهب الناشر, أو المدعى زورا التحقيق والتعليق, فكم من طبعة لكتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري لشيخ الإسلام ابن حجز -رحمه الله- تصرف ناشروها ومن ادعوا تحقيقها أو التعليق عليها فيها, وحذفوا من الكتاب ما لا يتوافق مع مذاهبهم أو مذاهب من يقلدون, وهذه من أشد صور خيانة الأمانة العلمية بروزا في عصرنا الرديء هذا وكذا كثير من كتب العلم المعتمد عليها في شتى العلوم والفنون الإسلامية, تتعرض لمثل هذا كل يوم, ولن نتعرض لما يفعله تجار الكتب بتراثنا العلمي, من حذف وإضافة وإصدار الكتاب الواحد بعناوين مختلفة, أو تقسيمه لعدة كتب, وها هو تراث شيخنا الجليل محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- يتعرض كل يوم لمثل هذا وينسب إليه ما لم يكتبه أو يقله قط, وحينما عرضت صحفيا قضية الشيخ عائض القرني مع الأخت الكريمة سلوى العضيدان, واتهامه بسرقة 95% من مضمون كتابها “هكذا هزموا اليأس” وإصداره في كتاب تحت عنوان ((لاتيأس)) تمنينا حفاظا على سمعتهما معا, وأن تنتهي القضية باعتذار من أخطأ, فهذا خير من التمادي في الباطل, ولكن الأمر أخذ طريقا مختلفا, فتقدمت الأخت سلوى بشكوى إلى لجنة حقوق المؤلف بوزارة الثقافة والإعلام, وهي الجهة الرسمية التي تحكم في مثل هذه القضايا, فلما صدر حكمها بتغريم الشيخ عائض القرني بهذا المبلغ المعلن عنه, ومنع توزيع كتابه, مما يعني أن ما أدعت به الأخت سلوى هو الحقيقة التي أيدتها اللجنة بهذا الحكم, إلا أننا طالعنا في هذه الجريدة في يوم الثلاثاء 1/3/1433هـ, تصريحات للشيخ عائض القرني, لا يعترف فيها بذنبه, وإن أكده بأسلوب يلزمه بتنفيذ الحكم, وإن كان قد ظن أن ما ساقه يعفيه من المسئولية, وأوله الاحتجاج بأن العالم الموسوعي الجليل ابن تيميه -رحمه الله- بزعم الشيخ عائض كان ينقل الصفحات من كتب العلماء ولا يذكر المصدر, وهو اتهام غريب لمن يدعي إتباع نهج هذا العالم الجليل, فما يذكر ابن تيميه عن عالم رأيا إلا ونسبه إليه, وإن أخذ عنه بعض ما يضمنه كتاب له, يقرأه العلماء, ويميزون قول الشيخ ابن تيميه من قول غيره, وليس الحال كذلك بالنسبة للشيخ عائض القرني في هذه القضية ثم هل يستحق منه هذا العالم الجليل الإساءة, لمجرد أنه أراد أن يبرئ نفسه من تهمة تثبت عليه, وكثرة ما ألف الذي يقول أنه بلغ تسعين كتابا, لا يعطيه الحق في ما فعل بكتاب الأخت سلوى, بل لعل ما فعله يشكك في أنه مؤلف تلك الكتب إن صح تسميتها كتبا ومؤلفات, وسوق تهم للمتنبي والحريري وابن دريد والفرزدق بأنهم سرقوا قصائد غيرهم أو كتبهم, مما لم يثبت علميا, لا يجعل فعل الشيخ عائض مشروعا, ولو ثبتت عليهم هذه التهمة, فهل هي أذنا له بأن يفعل فعلهم, أم يريأ بنفسه عن سلوك السارقين, وحاشاهم أن يكونوا كذلك. وأما تقسيمه التأليف الذي لم يسبقه إليه أحد, بأن التأليف لا يخرج عن ثلاثة كما زعم التنصيص والاشتراك في معنى, وبنات فكر, وهو إن صح لا يعفيه من هذا الخطأ الجسيم الذي ارتكبه في حق الأخت الفاضلة سلوى, وما ارتكبه في حق الأمانة العلمية, ومخالفته لنظام حقوق المؤلف, بل لعله أكد التهمة على نفسه بكل هذا, رغم أن لا يزال له حق استئناف الحكم, عفا الله عنا وعنه وأرانا الحق حقا ورزقنا إتباعه وأرانا الباطل باطلا ورزقنا اجتنابه.