لا نجد من العقلاء من ينتبه إلى تدهور الأوضاع في مصر اقتصاديا ولا ينتبه إلى الأمن المفقود ولا في هذا العجز الهائل في سائر المشكلات التي استفحلت
مصر بالنسبة لكثيرين مثلي البلاد الشقيقة لبلادنا، التي أمدتنا بأساتذة علماء تلقينا العلم على أيديهم في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، واستعنا بخبرات في مجالات عدة من أفراد مصريين عملوا، ولا يزالون يعملون في هذه الأرض الطيبة، التي تضم الحرمين الشريفين، وتجذب أكثر المصريين زوارًا للحج والعمرة، ويفضلون العمل فيها، لأنهم شعب متدين بطبعه، ومثلي ممن درسوا المرحلتين المتوسطة والثانوية في معهد عريق هو دار التوحيد، ثم في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة حظي فيها بنخبة من علماء الأزهر المؤسسة العلمية الإسلامية الرائدة، التي تميزت بها مصر الكنانة، وحفظت للإسلام تراثه في شتى العلوم، فكانت للعالم كله منارة علم وهدى، تتميز بوسطية واعتدال نجحت من خلالهما لاجتذاب الأعداد الكبيرة إلى هذا الدين الحنيف،
فلا تتوجه إلى أي بلد إسلامي أو فيه مسلمون إلا تجد من هذه المؤسسة العريقة علماء، يرفعون للإسلام راية، وحينما درسنا في مراحل التعليم المختلفة حظينا بعلماء من الأزهر، بعضهم موسوعات علمية تسير على قدمين، ثم تواصل أخذنا العلم على أيديهم حتى بعد أن تخرجنا في المعهد العريق والكلية، ولم تنقطع الصلة بعلماء الأزهر، يشجعنا على ذلك علماء المسجد الحرام، الذين كنا نتلقى العلم في حلقاتهم ما وسعنا الجهد والوقت، ولهم بعلماء الأزهر صلات وثيقة، وزيارات متبادلة، فأثر فينا نهج هاتين المدرستين العلميتين، حلقات الدرس في الحرم المكي الشريف، ثم على يد مشايخنا المصريين، مما جعل صلات بعضنا تتوثق،
فأنا مثلا بعد التخرج أصبحت زياراتي إلى مصر منتظمة، خاصة وأنني تزوجت منها، امرأة صالحة عمرت بيتي أربعا وثلاثين سنة، كانت لي فيها رفيقة أحفظ لها الود والوفاء ما حييت، فلما أختارها الله إلى جواره، تزوجت بأخرى من مصر أيضًا، رشحتها لي أثناء مرضها، فمثلي من أهل هذه البلاد كثيرون، ممن تلقوا العلم على يد علماء وأساتذة مصريين، وثقفوا أنفسهم من خلال الكتاب والمجلة التي تصل إلينا من مصر، فرموز الثقافة العربية المعاصرة الذين أثروا في مثقفينا هم مثقفو مصر البارزون، ثم مثقفو الشام،
وفي الأدب تأثرنا بهم وبأدباء المهجر الذين بعضهم منهم، فمصر لعالمنا العربي ثقافيًا لها الريادة، وظلت مصر على مدى تاريخها الحديث البلاد التي تحتضن العلوم والآداب والفنون، وظلت دومًا علاقتها بالعالم العربي علاقة المحبة والمودة، وحتى في لحظات الاختلاف،
كانت مصر تفتح ذراعيها لاستقبال كل المواطنين العرب والمسلمين، مصر التي كانت زيارتها للكثيرين من أبناء الوطن العربي كله أمنية غالية يتمنى أن تتحقق، ويعز اليوم علينا أن يصبح التنافر بين مواطنيها قد بلغ حد الأزمة، كل فريق لا يقبل رأيًا للفريق الآخر، وكلٌ يقرّر طريقًا لا يوافق عليه الفريق الآخر، ولم نعهد مثل هذا في مصر أبدًا، وإذا كانت مصر بعد ثورتها في 25/1/2011م كانت ترنو إلى مستقبل أفضل، وإلى حرية تسود تصبح حقوق الإنسان في مصانة، وينال كل المواطنين حقوقهم المشروعة، لا يحول بينهم وبينها حائل، ولكن ما يحدث حتى اليوم لم يحقق لهم كل ما كانوا يعلنونه حين تحركهم في الأيام التي تلت يوم الخامس والعشرين، ورغم أنه قد تم انتخاب رئيس، ومجلس شرعي، إلا أن الاتفاق لم يتم، وظل التنازع بين الفريقين حادًا، ورأينا الأحداث تتفاقم، ومصر تفقد كثيرًا مما كان يميّزها بين دول عالمنا العربي، حتى أن الأزهر اليوم أصبح مهددًا من فئات تريد احتكار الخطاب الديني، ومنع المؤسسات الشرعية أن تتحدث عن الدين، ما لم توافق على ما توجه به وتعتمده من غلو في الدين، والتي جاءت إلى الساحة عبر كثير من المغالطات، التي تستحث من خلالها العامة بما ليس حقيقة، وتدفعهم إلى عدوان على إخوانهم، ولاشك أن في الطرف الآخر مَن ركب الموجة من أجل أن يجد له موطئ قدم في العهد الجديد، ويريد أن يكون له موقع، وقد رأينا الكثير من هؤلاء من الجانبين، الذين لا يسعون إلا لمصالحهم الخاصة، وهم الذين يزيدون الاختلاف حدة، ومع هذا فلا نجد من العقلاء من ينتبه إلى تدهور الأوضاع في مصر اقتصاديًا، ولا ينتبه إلى الأمن المفقود، ولا إلى هذا العجز الهائل في سائر المشكلات التي استفحلت، وتلك التي استجدت عندما تولى الأمر من لم يتأهل له، وكثر في صفوف المسؤولين الكبار الهواة، الذين لا يعلمون شيئًا عن مشكلات مصر ولا يملكون العلم اللازم الذي يعرفهم عليها، ولا الخبرة التي تمكنهم من اقتراح الحلول وتنفيذها وما لم ينته هذا الارتباك فلن تعود إلينا مصر التي كنا نعرفها، والتي تعيش في ذاكرتنا، فلعلهم ينتبهون لذلك فهو ما نرجو والله ولي التوفيق.