يقبل علينا بعد أيام سيد شهور السنة شهر رمضان المبارك، الذي أنزل الله فيه القرآن، في ليلة من لياليه تعدل ألف شهر، من وفقه الله إلى قيامها إيمانًا واحتسابًا استجيبت دعواته، وسهل طريقه إلى الجنة، كله خير فأوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، ما قام أحد لياليه، وصام نهاره، وأقبل على تلاوة كتاب الله فيه، وأشغل نفسه بالطاعة، ولسانه بالذكر إلاّ وحاز من الفضائل ما جاز به إلى رحاب الطاعة، حتى تجذرت في قلبه وعقله، فتقرّب إلى ربه، وأنس به، وفارقه شح النفس، فاقتدى بسيد خلق الله المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان في العطاء كالريح المرسلة، هذا الشهر الكريم فضائله لا يحصيها العد، لعل من أهمها أن يعتاد العبد الطاعة، أولها الصيام الذي به يتجنب الشهوات: شهوة البطن، والفرج، والنظر مادام صائمًا يخشى أن يبطل شيء صيامه، أو يجرحه حتى صغائر الذنوب يحرص ألاَّ يأتيها، ولياليه وأيامه فاضلة هي أزمان طاعة، يسعى بها العبد لرضا ربه، والصوم يكسر حدة الشهوات، فتخف وطأتها على نفس المؤمن، ويطمع العبد برحمة الله التي وسعت كل شيء، لياليه مضيئة تستحث العباد على قيام الليل، وتتحين الفرض لقبول الدعوات وإجابتها، فينصرفوا إلى الطاعات كل وقتهم، يعوضون بذلك ما أهدروه من أوقات في غيرها، وهي التي بها تعمر الدنيا، ويأمن الناس بها في آخرتهم، والطاعة تفعل بطمأنينة أكبر من جموع الطائفين، ولا يتحقق هذا إلاّ في مواسم للطاعات معلومة كشهر رمضان، والأشهر الحرم كافة، وأشهر الحج خاصة، والمؤمن المعلق قلبه بربه، يبحث عن أفضل الأزمان للطاعة فيستكثر منها، فرمضان سادتي من بين هذه الأزمان هو أفضلها، وهو بين مواسمها الأغلى، والموفق هو من جعل منه زمنًا يقربه إلى الله، حتى يشتغل بطاعته عن كل ما كان يحب في الدنيا، فتصبح في حياته هي أولى أفعاله وأنضجها، فيصبح ليله مع نهاره في كل الأشهر زمانًا للطاعة يهتبلها ليحظى بالقرب من الله، كما جاء في الحديث القدسي كله لربه (ما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)، فتكون كل أفعاله برسم الطاعة، لا يسمع إلاّ ما يرضي الله، ولا ينظر إلاّ إلى ما أباح له ربه، ولا يستعمل يده إلاّ في الخير، ولا يمشي برجله إلاّ إلى مكان فيه الخير، ومن كان أمره كذلك فهو أسعد الخلق أجمعين، ولكن هذا الشهر لابد من استعدادات له ليكون العمل فيه صحيحًا يقربنا إلى الله، فلعلنا نستعد له بإزالة الأحقاد والإحن، ونصفّي القلوب من الحسد وكل مرض يصيب القلب فيبعده عن الله، فلنذهب إلى كل من أسأنا إليه نعتذر إليه، ونطلب منه أن يسامحنا، وإن كان في النفس شيء على قريب أو صديق أو جار فلنزله، ونقدم الصلح على الشحناء التي تكون سببًا في عدم غفران الذنوب، وإن كان أحد منا مقيمًا على معصية من أي نوع أن يتوب منها التوبة النصوح، يقلع عن المعصية، ويعزم على ألا يعود إليها أبدًا، ويستغفر ربه، ويكثر من الأعمال الصالحة ليزيل بالحسنات السيئات، فإن الإقبال على الطاعة بعد زوال كل أثر للمعصية يجعل الأعمال الصالحة مضاعفة الأجر، وكل منا ولا شك يريد ألا يمر شهر رمضان إن بلغنا الله إيّاه إلاّ بذنب مغفور، ونجاة من النار؛ لتكون بالعمل فيه الفرحتان، الفرحة كل ليلة بالفطر عند غروب الشمس، والفرحة الكبرى بتمامه، وقبول العمل فيه ثم الفرحة الأكبر بدخول الجنة من باب الريان، فهل نستعد له كما نرجو؟ هو ما نأمل، والله ولي التوفيق.
شاهد أيضاً
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …