تتنوّع السياحة، وخيرها ما نطق بوصفه كتاب الله العظيم، في قوله تعالى: (إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًا فِى التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ* التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ)، فخير ألوان السياحة، سياحة المؤمنين الذين وصفوا في هذه الآية بخير أوصافهم، هم من آمنوا بما جاءهم من ربهم، فجهادهم في سبيل الله لا ينقطع، حتى يبقى الحق في دنيا الناس قائمًا يذبُّون عنه بكل ما أوتوا من قوة، وهذا يقتضي ألوانًا من السياحة المطلوب فيها في الأساس رضوان الله، ومنها السفر للعبادة، التي يخلو فيها المؤمن السائح بنفسه مع ربه، تستجم فيها روحه من كل ما حوله ممّا يدفع لشهوات الدنيا، في هذا السفر يتقرّب إلى ربه بالعبادة، ويتدبر الخلق أليس الله يقول: (إنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، وليكن هذا سفر نسك فيه الكثير من العظات والعبر، كهذا السفر الذي يمضي فيه الصالحون شهورًا، بل سنوات، ينفضون عنهم أوضار دنياهم، وقد يمكثون فيه أيامًا قليلة يعود إلى المدن والاجتماع بعدها، وهم يتحدّثون عن العبر والعظات التي صادفتهم في سياحتهم هذه التعبدية، فينفع الله بهم، ويكتب لهم ثواب الهادين المرشدين، ونوع ثانٍ مهم من ألوان السياحة له فضل عظيم، وهو السفر في طلب العلم، والذي كان لا يستغنى عنه طالب العلم في الماضي، حتى كانت الرحلة في طلب العلم إحدى وسائل تحصيله الأهم، وأظنه اليوم باقيًا والحاجة إليه أكثر، فالمسلمون اليوم في أشد الحاجة إلى التخصصات العلمية التي فقدوا الحصول عليها في بلادهم، وإن لم يسافروا لتحصيلها فستبقى بلادهم دومًا تابعة لغيرها، شريطة أن تكون النية في هذا السفر لله عز وجل، بأن يخدم بالعلم الذي حصل عليه دينه وأمته، ولا يزال السفر عبادة من أجل العلم حتى لعلماء الدِّين مفتوحًا ومهمًّا، فلقاء العلماء على اختلاف مذاهبهم ورؤاهم الفكرية ممّا يمد الأمة بخير بما تمد به من فهم أوسع لهذا الدين الحنيف، وأقدر على جمع كلمة أمتهم على الحق، الذي به تبنى الحياة في الدنيا على خير أسسها وأقومها، وهي في الآخرة ما تجلب للأمة الأمن في الحياة الآمنة السرمدية، والتي يجب أن تسعى إليها الأمة عبر كل مراحل حياتها الأولى، ويبقى من السياحة ما تحتاجه الأرواح والأجساد بعد طول عمل، فتحن إلى راحة تقضيها بعيدًا عن المجال الذي أرهقها، ولتوق الإنسان بما فطر عليه إلى معرفة غير من يحيط به من الأهل، وأبناء الوطن، ليرحل إلى غيرهم يستفيد تجربة بمعاشرتهم، ويرى بلادًا غير بلاده، قد يطلع على ثقافة أخرى غير ثقافته، وكل ذلك مباح له، لا يمنعه منه عقل ولا دين، ما التزام بضوابط الخلق والدّين.
أمّا السفر إلى مواطن الإباحة والفساد؛ توقًا للشهوات المحرّمة، فقد ثبتت أضراره الجسدية والنفسية، وحذّر منه العقلاء، ولا يتوق إليه الإنسان إلاَّ عندما تنحدر رغباته إلى الدرجة الحيوانية، حتى وإن كان لذلك في العالم بؤر معلومة مشهودة، توفر لقاصديها كل ما يجعلهم ينغمسون في تلك الشهوات ما داموا مقيمين فيها، ليعودوا إلى أوطانهم يحملون من فيروسات الأمراض الخطيرة الكثير الذي يثير الرعب، لأنهم لم يسمعوا النهي الإلهي عن الفاحشة حين يقول الله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً)، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلاَّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا).
اللهم فاحمنا من السوء وأهله، واحفظ أبناء وطننا من كل ما يضرهم، وأعنهم على طاعتك وحسن عبادتك، إنك سميع عليم.