إن المجتمع إذا شاع فيه صدق الأخبار، رأيتها به تتعاظم، ورأيت الآمال به تتحقق، ذلك أن الصدق أمانة المتكلم، فإذا كان أميناً فقد صفا واقعاً، وازدهرت به الأمانة، ورأيت الناس يتزاحمون لتحقيق آمالهم ويرعون أماناتهم، ولما كان سيد الخلق المصطفى أميناً عند ربه، صدَّق بأمانته خلقُه، حتى وهم يُعادونه، وثقوا بأمانته، فاستودعوه أموالهم وهم مطمئنون أنها عائدة إليهم لا محالة، حتى وهم وهو في أحلك الظروف، وهم يجتمعون على الاتفاق على قتله، هم يَطلبونه أميناً على أموالهم، حتى وهم يحملون السيوف ليقتلوه. هكذا تزدهر الأمانة في أحلك الظروف، ويفي الأمين بأمانته وهو لا يخاف احتشاد القوم لقتله، وهم يسعون لقتله، آمنون على ما ائتمنوه عليه من أموال، ويلقون في فراشه ابن عمه، يُعيد أماناتهم إليهم، فيُعطيهم ما ائتمنوا ابن عمه عليه -صلى الله عليه وسلم- ولا يسألهم عن ما اتفقوا عليه من الغدر بابن عمه، الذي ربَّاه وأحسن إليه، ويمضي الأمين غير آبه لعذرهم، ولا منتظراً لجزاء لإحسانه إليهم. هي الأمانة التي لا يحملها من البشر إلا من أطاع ربه، وإن كان حِملها عليه ثقيلاً، لذا حرَّم ربنا الغدر وأوجب الأمانة، وعليه أوجب الشهادة فرضاً لمن أحب الإنسان أو كره، فالمروءة تقتضي أداءها كما تحملها صاحبها يوماً، ودون أن يطلب على ذلك أجراً أو إحساناً، لأن الحقوق لا تثبت إلا بها، وهكذا هو الدين الذي جاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أنقذنا الله به من الضلالة إلى الهدى، ونقلنا به من الجهل إلى العلم، وجعلنا به ناجين في الدنيا والآخرة، فاللهم احفظنا -بما أرسلته به- من ظلمات الدنيا، وافتح به ربنا أبصارنا دوماً على كل خير.