الكاتب الحر يهمّه أن يطرح من الموضوعات ما يراه جديرًا بأن يُطرح, ولا يعنيه أبدًا ألاَّ يعجب قوله البعض ممّن يختلفون معه
يكثر اليوم في الكتابات الصحفية, والأحاديث الإعلامية أن كلَّ مَن تحدّث في موضوع يلقى أهمية من الجمهور, كقيادة المرأة للسيارة كمطلب لها, يعتبر من حقوقها التي لا يمنعها شرع ولا عقل, رأيت البعض يكتب مؤنِّبًا مَن يطرحون الرأي في هذا الباب, أنهم يتحدثون في أمر غير مهم في زمنٍ فيه الأخطار تتهدد بلداننا العربية من كل جانب, وكان الأولى بالمتحدث في هذا الموضوع أن يتحدث عن هذه الأخطار, وهو زعم بعيد عن الواقع, فمهما كان الموضوع الذي يراه مُهمًّا, أو ذا خطورة, أو أنه الأولى بالكتابة والحديث, لا يمنع أن هناك غيره من الموضوعات ما هو مهم, والحديث عنه واجب, ولا يمنع أن يتحدث هو أو غيره عمّا هو أهم أو أجدى, كما يعترض المعترضون اليوم, وكل غايتهم أن ما تطرح أو يطرحه غيرك ممّا هو على غير رأيهم وليس من تيارهم أن ينتقدوه بأي شيء ولو كان تافهًا, ظنًّا منهم أنهم بهذا يصرفون الناس عن متابعة ما يكتب, وهذا اللون من النقد الذي لا يقصد به لا التصويب ولا التقويم, إنّما هو عبث لا معنى له, وما أكثره اليوم في الكتابات أو الأحاديث عبر المحاضرات, والندوات, فالمتحدث عن الرياضة يجد من يقول له: لماذا لا تهتم بالقضايا الاجتماعية? فهي الأولى والأنفع للناس, والمتحدث في الأدب وأجناسه يجد هو الآخر مَن يدّعي أنه يصرف وقته فيما لا يفيد, وفي المجتمع الكثير من المشكلات التي تحتاج قلمه وجهده! ومَن يكتب في القضايا الفكرية حتمًا سيجد مَن يقول له: هذا ترف زائد, والمجتمع فيه الكثير من الظواهر التي تحتاج منه أن يتصدّى لها, بل إن من يكتب عن هذه الظواهر, خاصة منها السيئ, يجد من يتصدّى له ليعتبر ما يقوله غير مهم, وأنه لا يمثل ظاهرة, وقد ينسب إليه تشويه المجتمع, المهم أنه ينتقد المختلف عنه أو معه, ويظل الأمر على هذا النسق دومًا, والمتحاورون كل منهم يُسفِّه رأي الآخرين, وكأنّ مَن يكتب, أو يتحدّث يجب عليه أن يستحضر كل ما يراه الآخرون مهمًّا, أو أنه الأولى, وإلاَّ فلن يسلم من نقدهم الوهمي هذا, ومن المستحيل على الكاتب أن يستحضر كل مشكلات مجتمعه ويضمّنها مقاله الواحد, أو حديثه المحدود بزمن, ولا شك أنه يتطرّق لكثير من هذه المشكلات في عدد من مقالاته, ولكن المُنتَقِد الهُمام لم يقرأ له سوى مقال واحد, وعليه علّق وانتقد, لأنّه في الحقيقة إنّما يختلف مع هذا الكاتب, ومن ينحو نحوه, لسبب أنه مثلاً ليس من تياره, أو أنه لا يرى أن تنتقد مواقف معينة, لأنّها من المواقف التي يُؤيّدها, حتى ولو كانت ضارّة بالمجتمع. والكاتب النزيه الحر يهمه أن يطرح من الموضوعات ما يراه جديرًا بأن يُطرح, خاصة ما يراه ينفع الوطن وأهله, ويحرص عليه, ولا يعنيه أبدًا ألاّ يعجب قوله ورأيه البعض ممّن يختلفون معه, ذلك أنه لو لم يكتب إلاّ ما يُرضيهم لما كتب أصلاً, فبعضهم لا يُرضيه سوى التافه من الأفكار التي يعتنقها, وهو قد رُبِّي منذ زمن طويل على إقصاء كلِّ مَن يُخالفه, ونقده نقدًا غير نزيه, يُسفّه فيه رأيه, ولا يرى رأيًا يستحق أن يظهر, وأن يقرأه الناس سوى رأيه, وما يُردّده تياره الذي رضي ألاّ يشتغل بشأن المجتمع وقضاياه, ولا الفكر وما يطرحه من موضوعات تفيد العصر الذي يعيش فيه الناس, ونحن لسنا مع هذا اللون من البشر, الذين همّهم الاشتغال بصرف الناس عن المهمّات في أداء حق الوطن وأهله, ويدعوهم لما لا خير لهم فيه, ولا خير له فيه, هم مَن لازمهم الغرور فظنّوا أنهم وحدهم الذين يعرفون ما يَنفع الناس وما يضرّهم, وما هو الأولى طرحه, وما لا يطرح, هو لم ينظر إلى أن الآخرين يمتلكون من المعرفة والخبرة ما قد يفوق ما لديه, وأنهم أقدر منه أو على الأقل مثله, فأعماه الغرور, فجعل يُخطِّئ الناس دومًا, لا يرى أنه يصدر منهم صواب أبدًا, وعدم التجاوب مع هذا الصنف من الناس يجعلهم يختفون, فهل نفعل?! هو ما أرجو.. والله ولي التوفيق.