الإحصاء والتخمين

الإحصاء علم رياضي دقيق، احتاجته كل العلوم الإنسانية، لمعرفة دقيقة بالواقع، ومن ثم التخطيط له، فالحكومات في سائر بقاع العالم، خاصة في البلدان المتقدمة تنشئ هيئة إحصاء عامة، يديرها متخصصون، تجمع الإحصاءات من كل نوع، ويرجع إليها عند التخطيط لكل سياسات الدولة ومشاريعها، فالحكومة حينما تريد مثلا إنشاء مشروعاً صحياً، أو تعليمياً، أو غيرهما، ترجع لرصيد هذه الهيئة لتعلم عدد من يحتاجون الخدمات الصحية، والقدر الذي يحتاجونه من أنواعها، ثم قدر ما يتوافر منها وما يحتاج إلى أن يضاف إليها، وهكذا عند إنشاء المشروع التعليمي، فتعرف عدد من يحتاجون إلى التعليم، كان أوليا أو عاما أو جامعياً، وماهو المتوفر من المؤسسات لها، وما يحتاج إلى تطوير منها، والقدر الذي يحتاجه الناس منها، ولهذا كان الإحصاء السكاني بكل مفرداته مهم جداً للدول الحديثة، فعلى أساسه تبني سياساتها وخططها، ولكن الإحصاء شيء مختلف عن التقديرات أو التخمينات التي يقوم بها الأفراد، فالواقع في كثير من الأحيان يفاجئ صاحبها بأنه توهّم شيئا ليس في الواقع وجود. والإحصاءات إذا لم تكن علمية وموثوقاً منها فلا قيمة لها، بل إن ضررها على المجتمعات الإنسانية كبير، ولنضرب لهذا مثلا بالقنوات الفضائية التي ملأت سموات العرب، وتمارس لونا من التزييف لأفكارهم ورغباتهم، عبر ما تدّعي أنه إحصاء إليكتروني أجرته لعينة منهم، وكثير منها لا يعتمد على أسس علمية، ويجريه غير متخصص، وقد لا يسلم من التزوير والتلفيق، وبعض هذه القنوات وللأسف تزعم أنها دينية، وهي تطرح قضايا جدلية لا ينتفع منها أحد، بل هي في كثير من الأحيان تثير فرقة بين المسلمين، وتضرم بينهم نار كراهية وبغضاء أثرها على مجتمعاتهم مدمر، وهي دوما تزعم عبر إحصاءات مزيفة ما تزعم أنه تأييد لمنهجها وما تطرح، وأكبر برامجها موجهة سلفاً يراد بها توجيه الناس للمواطن الخطرة، واليوم ينشر في الصحف عن إمام مسجد يخمن أن 90% ممن يسافرون إلى الخارج لقضاء إجازاتهم السنوية يقترضون أموالا للإنفاق في رحلاتهم، ويزعم أن 85% ممن يسافرون في الصيف إلى الخارج، في هذه الأيام قبل بداية إجازات الصيف يراجعون البنوك للحصول على قروض وبطاقات فيزا، وكأنه قد صاحب كلا منهم عند مراجعته للبنك وحصوله على ما يزعم، ثم يعود فيؤكد أن 92% من المواطنين عليهم ديناً لمؤسسة مالية، ولا أحد يدري من أين أتى هذا الإمام بهذه النسب؟، وليس لدينا بهذا إحصاء صحيح قامت به جهة رسمية كمؤسسة النقد مثلاً، وهي المنوط بها إجراء إحصاء مثل هذا لتوافر كافة المعلومات عن البنوك لديها، كما أني لم اطلع على إحصاء كهذا أجراه أحد البنوك العاملة في البلاد، بل لعل شيئاً من هذا لم يحدث أصلاً، فهل يصح لكل إنسان أن يطلق لسانه بترديد معلومات زائفة لا يُذكر لها مصدراً ويخوف بها المجتمع كله، بل لعله يريد أن يمنعهم من السفر للاستمتاع بإجازاتهم، بل ويصرح غير هيّاب أن كل ما يركبه المواطنون من السيارات الفارهة أو الملابس الجيدة أو النظارات غالية الثمن، أو الأقلام الراقية، إنما هي من قروض تراكم الدين عليهم، وهو ناصح لهم يطالبهم بالتقشف والبقاء داخل حدود الوطن كل الزمان ليرضوه، فلعله يرى كل ذلك محرماً، والغريب لا أحد يدري من أين يستقي هذا الإمام معلوماته، ولبعض وعاظنا ودعاتنا مواسم يعترضون فيها على أشياء كثيرة أغلبها هامشية، ولا يعطوننا دليلاً واحداً على تحريمها، والمواسم متتالية والمواعظ معدة، والملقون نشطون، وكأن ليس في المجتمع شيء يمكن مناقشته سوى مثل هذه القضايا الهامشية.. فلا مظالم ينهى عنها، ولا مفاسد يحذر منها، ولا محرمات هي من الكبائر تفسد الحياة كالغيبة والنميمة وكل وسيلة للوقوع في أعراض الناس قد يقع فيها بعض المنتسبين للعلم يحذر منها، هدانا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه، فلا يعلن عما لم يقع، هو ما نرجو، والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: