ما اجتمع الناس على رأي واحد حتى في أفضل العصور, وإن ما يمنع الناس من التعادي إدارك حقيقة أنهم مختلفو العقول
كانوا يقولون إن الاختلاف لا يفسد للود قضية, ذلك أنهم يلتزمون بآداب حين الاختلاف ترقى بخلافاتهم على ألا تكون سفهاً يؤدي إلى الشقاق, بل والتعادي والتباغض, والحوار عندهم ليس هو الغاية, إنما لطلب الحق والحقيقة, فإذا وصلوا إليها كفوا عن الاختلاف, أما في عصرنا هذا فالاختلاف حتماً يفسد للود قضاياه, بل وينشئ تيارات وفرقاً تتعادى وتتباغض بل وقد تقود حيناً إلى اقتتال, هذا -وللأسف- الحقيقة التي عرت في هذا الزمان وأصبحت من الوضوح بمكان, يراه كل ذي بصر وبصيرة, فالاختلاف العقدي عند الكثيرين يؤدي إلى تكفير المُخالف, بل وبالغ البعض في نبش الماضي ليستخرج منه فرقاً ماتت ولم يعد لها وجود ليربطها بأخرى لا يزال لها أتباع في عصرنا, لمجرد أن يسحب تكفيره لها حتى يكفر من هم يعايشونه من المسلمين في هذا الزمان, وكم فتك هذا الخلاف العقدي بالمسلمين في الماضي وبدايات الحاضر, حتى أنهك الأمة وشتتها, ولم يجد المسلمون حتى اليوم حلاً لذلك, حتى ما ظل العقلاء يصرخون به ليل نهار أن من الاختلاف ما يجب ألا يغادر المجالس العلمية, وأن يكون طرحه في مجالس العلم فقط دون أن يخرج للعامة ليُفرّقهم ويخلق بينهم عداوة وبغضاء قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه, ولكن ظل عشاق الاختلاف المفسد لكل شيء يُردِّدون النبز بالألقاب, ويُقارعون من يختلفون معهم بأشد الألفاظ أذى حتى يدفعونهم أن يواجهوهم بالمثل, فتظل الكراهية هي السائدة, ولا يعود للوصول إلى الحق في أي مسألة طريقاً يُسلك, ثم تبع هذا اختلاف لونه عصري, وهو في العمق مرتبط بهذا النوع من الاختلاف, يوم أن ظهرت التيارات التي أسماها أهلها بأنها إسلامية, وبحثوا عن أعداء لها فاخترعوا لهم التصنيف وردّدوا ألفاظاً كثير منها لا يعرفون لها معنى ولا مصدراً, كالليبرالية والعلمانية والرأسمالية والاشتراكية, ثم القومية واليسارية وساووا بينها وبين الكفر, فصنعوا تيارا يقارعونه في الاختلاف وينسبون إليه كل النقائص التي يمكن أن يوصم بها أحد من الناس ليتعرض لكراهية شديدة, ثم قد يصل الأمر إلى تكفيره, ورغم أن هذه المصطلحات التي تتردد في الثقافة المعاصرة كثير منها يشير إلى مذاهب سياسية واقتصادية, قد يكون في جزئياتها ما هو مخالف للإسلام, وحتماً فيها ما لا يخالفه, والمُثقَّف الذي يُحلل واقع العالم لا بد له من أن يدرسها ويكتب عنها, وقد يُعجب ببعض ما في هذه المذاهب من حقائق, ولكن, حقيقةً إذا كان من أبناء هذا الوطن, الذين نشأوا فيه وتعلّموا في مدارسه ومعاهده وكلياته حتى وإن نال شهادة عليا من الخارج, لا يمكنه ان يَرضى بما يخالف الإسلام وشريعته, وإننا نُؤكِّد -أن بعض الناس إذا أفقده أسلوب الاختلاف الذي ظل سائداً منذ عقود- الحرص على ألا يتهم أحداً بما ليس فيه, كان في كل حال متهماً -لكل ما لم يكن من تياره ولا على رأيه- بأشد التهم, التي يظن أنها تلغي رأيه ومواقفه, لينفرد هو ومن يمثلهم بالرأي والاجتهاد, بل ويكاد أن يزعم أنه هو الممثل الوحيد لهذا الدين الحنيف, يجب على كل أهله ومعتنقيه أن يعودوا إليه في كل الشؤون المتعلقة بهذا الدين, وكم حذّر العقلاء من هذا السلوك الذي يُبنى في الأساس على تكفير المُخالف, والذي أفسد الحياة, ومنع أن يتواصل ذوو الرأي ويتحاورون دون حكم مسبق لكل منهما على الآخر, ولكن الاختلاف يسود بين المتحاورين, وأخذت درجاته تسوء أكثر فأكثر, وظهرت طائفة الشتامين, الذين لا يتورعون عن الوقوع في أعراض الناس دون خوف من الله أو وجل, حتى أصبح الجو موبوءاً, ورأينا المختلفين يقيمون الدعاوى على بعضهم في المحاكم, فمن يسب ويشتم ويوقع في عرضه لمجرد أنه أبدى رأياً لم يعجب هؤلاء الشتامون مظلوم, وغاب الحوار الفكري الذي يُقصد به إثراء الفكر في المجتمعات والملتزم الآداب التي تجعل بين المتحاورين مودّة, وتجعل تواصلهم مؤدٍ في النهاية إلى الاتفاق على كثير من المشترك بين الجميع واحتمال القليل الذي فيه الاختلاف, الذي لا يمكن لأحد المتحاورين التنازل عنه لقناعته به, وأنه الحق, ولكنه لا يُنشئ بينهما عداوة أو بغضاء, بل يمكنهما أن يتعايشا مع وجود هذا الاختلاف, فالمعلوم بداهة أن صب الناس في قالب واحد مستحيل, فقد خلقهم الله مختلفين, وما اجتمع الناس على رأي واحد حتى في أفضل العصور وأزهاها, وإن ما يمنع الناس من التعادي إدارك حقيقة أنهم مختلفو العقول والمدارك, ولكنهم عبر الزمان يتعايشون, ولكن الأمر حتى الآن لم يدركه بعض هؤلاء الذين جعلوا من التحاور معركة مليئة بألوان من السباب والشتائم وفاحش القول, وصنعوا بذلك بينهم وبين من يحاورونهم معارك لا تنتهي, وإنا لنرجو أن يعودوا إلى الحق, ويلتزموا بآداب الاختلاف, فيحترموا أنفسهم ومحاوريهم حتى يكونوا إخوانا, غايتهم الحق لا الانتصار على الخصم, ولو بما حرم الله, وهو ما نرجو أن يفعلوا.. والله ولي التوفيق.