حينما كان الناس أقرب إلى هدي النبوة، كانوا يقولون إن تصرف الأمام منوط بمصلحة الرعية، فتصرفه إن أضر بها لم يقبل، فهو من اختاروه وبايعوه ليصرّف شؤون بلادهم، ويلي أمورهم، ولا مشروعية لتصرفه إلاَّ إن حقق مصالحهم التي اعتبرها الشارع الحكيم لهم مصالح، فإن فرط في ذلك أو تهاون كان لهم أن يحاسبوه، لذا لما ارتقى المنبر سيدنا أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- ليلقي خطبة توليه الخلافة لم يزد أن قال: “يا أيُّها الناس فإني وُلّيت عليكم ولست بخياركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة،
والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله)، وطاعة ولي الأمر الذي له في أعناق الناس بيعة صحيحة إنما هي الطاعة في المعروف، فضرر الخلق أكبر المعاصي، إذا وقع وجب إزالته، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فالسمع والطاعة واجبة لولي الأمر ما لم يأمر بمعصية أو يرضى بها، والنصيحة له واجبة، ففي الحديث الصحيح: (الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وقرن النصيحة لله والكتاب والرسول -عليه الصلاة والسلام- ثم لأئمة المسلمين، فعامّتهم، إنّما يشير إلى أن تصل كلمة الحق إلى ولاة الأمر وسائر الخلق بأفضل الأساليب وأرقاها، والصلة بين الحاكم والمحكومين إذا استقام أمرها نعم الناس في الحياة بأشهى ثمار السعادة، وولي الأمر الصالح يعلم أن عدله في رعيته خير أعماله، الذي يبلغ به أرفع الدرجات عند الخلق ثم عند الله، فهو دومًا يسعى إليه ويحققه، فلمّا ضعف المسلمون وابتعدوا عن هدي النبوة أضفوا على الحكام من الصفات ما لم يجب أن ينعتوا بها فقالوا: السلطان ظل الله على الأرض، وهي كلمة خطأها فادح من الناحية العقدية، فتجعل للحاكم ما ليس له، فكأن له نيابة مطلقة عن الله يتصرف في خلقه كما يشاء، وقد كان مشايخنا الذين تلقينا العلم على أيديهم ينفرون من هذه العبارة وينهون عنها، لما يدركون أن الغاية وراء ترديدها إعطاء الحاكم المسلم عصمة لم يعترف له بها الشرع، وآثارها عليه وعلى الناس خطيرة، ومَن يريد بها بحسن نية أن يبلغ الناس أن ولي الأمر هو المنفذ لأحكام الشريعة الساهر على مصالح رعيته، ففي اللغة وأساليبها مندوحة عن استخدام هذه العبارة السيئة السمعة، وما أجمل قول سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خير أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وشر أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)، جعلنا الله وولاة أمرنا ممّن يحب بعضنا بعضًا، والإمام العادل هو أسعد الناس حالاً.. يوم القيامة ففي الحديث (إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)، ولا يحتاج الأمر أن يدّعي المسلمون لولي الأمر عندهم قدسية ليُطاع فيقولون: إنه ظل الله على الأرض، وهو حتمًا لن يرضى بمثل هذا، لأنه يعلم أنه بشر، وأن طاعته تبعٌ لطاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- فالله جعل طاعته وطاعة رسوله -عليه الصلاة والسلام- مستقلة، وسببًا يؤدي إلى طاعة ولي الأمر، إن التزم طاعتهما فالله عز وجل يقول: (يا أيُّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)، فقد تكرر الفعل (أطيعوا) في الجملتين اللتين دعتا إلى طاعة الله وطاعة الرسول، ثم جاء تبعًا لهما طاعة ولي الأمر، ليعلم أن طاعته تبع لطاعتهما، ولذلك ردت الآية الاختلاف حين يقع بين المؤمنين -حكامًا ومحكومين- إلى كتاب الله وسنّة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-. وولاة أمر المسلمين يدركون كل هذا، ولا يحتاجون أبدًا إلى أن يُزعم أنهم ظل الله على الأرض، كما لا يحتاج العلماء المجتهدون أن يزعم لهم أحد أنهم مشرعون كالله، وأنهم ينوبون عنه في ذلك، إذا لم يرد بالحكم نص، فالمبالغات لا خير فيها، والحق لا يطلب إلاَّ بحق، وما لم يرد به نص فاجتهد العلماء للوصول إلى حكم له، يظل جهدهم جهد بشر، لا يجزمون أنه مراد الله وحكمه، ويظل الاجتهاد قائمًا ما دامت السموات والأرض، وحاجتنا إلى فهم ذكي للنصوص لإعمالها هو ما نحن في أمسِّ الحاجة إليه، لا النقل الأعمى من الكتب لأقوال علماء، هي في الأصل اجتهادات لهم لنجعلها كالنصوص الشرعية الواجبة التطبيق، فهل ندرك هذا؟ هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.