من يسمع أن لدينا حملة درجات علمية عالية كالماجستير والدكتوراة وهم عاطلون عن العمل، ينتظرون التوظيف ولا يصلون إليه، يظن أننا بلغنا شأوًا بعيدًا في التعليم، وسدت الحاجة إلى حملة الشهادات في بلادنا الذين نحتاج إليهم للنهوض بالوطن، ولدينا منهم فائض لا يجدون عملًا، والحقيقة الواقعية مخالفة لذلك كليًا، فلدينا في مجالات عدة نقص فيمن يقومون بالعمل فيها من المواطنين المؤهلين، فـأنت تذهب إلى مستشفياتنا فتجد الأطباء غالبهم وافدون، وتمر على صيدلياتنا حكومية وأهلية، ولا تجد إلا العدد القليل من العاملين فيها مواطنين، تذهب إلى مراكز البحث على اختلاف أنواعها فلا تجد من المواطنين فيها إلا العدد الأقل، وتذهب إلى البلديات والشركات الصناعية فتجد المهندسين العاملين غالبهم وافدون، وكل مجال علمي إلا ما ندر كذلك، وأما المجالات النظرية وخاصة منها العلوم الدينية فلدينا وفرة من المتخصصين فيها، ولدينا في مجال الآداب وفرة، ومع ذلك في الغالب تغيب عنها الجودة، فلدينا من التعليم الديني ألوانًا حتى بلغنا به التخمة في مدرسي الدين والدعاة والأئمة، مع أن سد الحاجة منهم لا يحتاج هذا كله، ولكن أبناءنا ينصرفون عن التخصصات العلمية البحتة، ويلتحقون بالتخصصات النظرية كعلوم الدين والنفس والاجتماع والتربية حتى أصبح لدينا تخمة في كثير من التخصصات، وتسرب إلى المتخصصين فيها بطالة قسرية، لعدم الحاجة إلى تخصصاتهم، حتى أن بعض جامعاتنا أوقفت الدراسة في تخصصات معينة لأن المتخرجين لا يجدون عملًا، ولا أحد يشك أن أهم التخصصات التخصص في علم الدين، ولكن بقدر حاجتنا لذلك، أما التوسع فيه لدرجة ألا يجد المتخرج في تلك الأقسام عملًا، فلا، الدين ضرورة للحياة، ولكن الحياة تحتاج إلى تخصصات أخرى التي هي فروض كفاية لابد وأن تسد، وإلا أثمت الأمة كلها، فحينما لا يجد المريض من يُداويه فإنا نأثم جميعًا، أما إذا لم يقم المتخصص في الفقه مثلا بالفتوى، فلدينا من يفتي، عَلِمَ أو لم يعلم الكثير، فالنظرة الواقعية لحاجة الوطن وأهله أمر ضروري يحث عليه العقل والدين، لماذا نُفرِّط في حق الوطن والمواطنين لمجرد أننا نخشى إن قلنا كلمة الحق، ثار في وجوهنا الجاهل الذي لم يفرق بين فرض عين وفرض كفاية، وما يحتاجه من هذا التخصص أو ذاك، فلابد لنا من إعادة النظر فيما اعتبرناه مسلَّمات، وهو ليس كذلك. والله ولي التوفيق.