هذه الثورات أثبتت أن النخب ثقافية وسياسية ودينية كلها لم تستطع درء خطر يتهدد هذه الشعوب الآن، بل يفقدها كل ما تحقق في الماضي حتى من البنى الأساسية لتلك الدول
لاشك أن التغيير أحيانًا تدفع إليه الضرورة، حينما ينتقل الناس من وضع سيء إلى آخر جيد، سواء أكانوا أفرادًا أو جماعات، والعرب اقتضت الحكمة الإلهية أن تنقلهم من أسوأ أحوالهم في الجاهلية، إلى خير أحوالهم في ظل الإسلام، الذي نقلهم من الظلمات إلى النور، حيث بدد الوحي ظلمات الباطل، فأنار الله به العقول والقلوب، فالله عز وجل يقول: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ)، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث.
فمسألة التغيير الذي يكون حينًا واجبًا كالانتقال من حال السوء إلى حال أفضل، خاصة إذا كان هذ السوء يعم الأمة، وقد يكون مستحبًا إذا كانت على حال، وهناك أفضل منها، فنقلها إلى الحال الأفضل مستحب، والنعمة التي يكون عليها الفرد أو الجماعة قد تسلب منهم حتى يغيروا ما كانوا عليه في السوء والمعصية، وهنا وجب أن يغيروا حالهم هذه بالطاعة والعمل الصالح والعدل يعمهم.
والربيع العربي الذي أسموه بهذا نتج عن ثورات أو انتفاضات شعبية كما يقولون، فتلك الثورة لا قادة لها باعتراف الجميع وقد تكون قد سبقتها إرهاصات لا يستطيع أحد الجزم بالقول إنها تلقائية أو مخطط لها من وراء ستار، ولكنها على كل نتجت عن رغبة في التغيير إلى حال أفضل، وهو هدف يجمع الناس الذين كانوا من الثوار أو يدعون أنهم منهم عليه فالبلدان التي حدثت فيها لا أحد يشك أن أحوالها لم تكن الحال الأفضل قبل حدوثها، إن لم نقل إنه كانت الأسوأ.
ولكن ما حدث أثناء هذه الثورات وبعدها لم يقد إلى الحال الأفضل ولاشك، رغم مضي ثلاث سنوات على بدايتها، ولا تزال شعوب البلدان التي حدثت فيها هذه الثورات تعاني أكثر مما كانت تعاني قبلها، ولا يزال من يدعون أنهم قاموا بها أو كانوا طرفًا فيها يختلفون على الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، فهناك أحداث وقعت يتبرأ منها الجميع، وأحيانًا يدعون أن هناك طرفًا خفيًا قد قام بها، ينسبها بعضهم إلى ما قد يسمونه الدولة العقيمة أو فلول العهد البائد كما أسموه، ولكنهم لا يستطيعون إقامة بينة على ذلك، خاصة وأن رموز هذا العهد كلهم في السجون إلا ما رحم ربي، وقد ينسبها كل تيار إلى التيار الذي يناهضه، ولا أحد يدري حتى هذه اللحظة من قام بها، إلا ما يحدث الآن، والذي هو معروف للجميع، وإن كان من يقوم به ينكره.
ولكن بإجماع الجميع فما حدث وما يحدث ليس في صالح الوطن ولا في صالح من يدعون أنهم قاموا بالثورة، وإن لم يعلم يقينًا أنهم هم من قاموا بها، وليس في صالح الشعب ولاشك، حيث إن الأحوال تتدهور اقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا، وأكثر من هذا بدأت مجتمعات تلك الدول التي قامت فيها هذه الثورات تفقد قيمها والأخلاق التي كانت عليها، ولا مفر من الاعتراف بكل هذا.
وهذه الثورات أثبتت أن النخب ثقافية وسياسية ودينية كلها لم تستطع أن تدرأ خطرًا يتهدد هذه الشعوب الآن، بل يفقد هذه الشعوب كل ما تحقق في الماضي حتى من البنى الأساسية لتلك الدول، بل لعلها أحد أسباب هذا التدهور، ولكنها لا تعترف بذلك،
ولهذا فإن الشعوب لم تمر عليها رياح هذا التغيير الذي لم ينتج سوى ما ذكرنا، وإن كان هناك من يجعل كسر حاجز الخوف أهم نتائجه ولكن كسره لم ينتج إلا خوفًا أكبر، حيث لم يعد أحد يأمن على حياته ولا ما يمتلك بل وعرضه الذي أصبح مباحًا في ساحات هذه الثورات لم يعد أحد يصونه.
أقول إن هذه الشعوب التي لم تمر عليها رياح هذا التغيير لم يعد لها رغبة في أن يصل إليها والحال على ما هي عليه اليوم، بل تحاربه بأشد الحرب حفاظًا على الوطن الذي أنشد الرائع لطفي بوشناق (خذوا المناصب والمكاسب ولكن خلوا لي الوطن).