الحوار لاستهلاك الوقت يستخدمه الكثيرون في العالم العربي للوصول إلى غاياتهم، لا ليصلوا من خلاله إلى نتائج تنهي صراعًا فكريًّا أو سياسيًّا
لا أحد يشك في أن أقل وسائل حل الصراع كلفة هو الحوار المنتهي إلى الوصول لاتفاق، أو على الأقل حصر الاختلاف في أقل حيّز ممكن، ولكن الحوار لا يتخذ دائمًا لحل المشكلات، ولكنه يعلن أحيانًا لاستهلاك الزمان حتى يستطيع أحد الطرفين فرض إرادته على الطرف الآخر، ويظهر هذا جليًّا في الصراع السياسي، فحينما يكون أحد الطرفين لا يقبل الرأي الآخر، ولا يسعى إلى حل مشكلته معه، ينادي بالحوار، ويعدد جلساته، وبعد كل جلسة من جلساته يرفض ما يعرض عليه رفضًا كاملاً، فإذا فشل الحوار، ذهب يحمّل الآخر مسؤولية هذا الفشل، ويشيع أنه هو الذي لا يقبل الحوار، وكلما ضعف موقفه نادى بالحوار، ووسم طرفه الآخر بأنهم هم الذين لا يؤيدون الحوار، رأينا هذا بوضوح في الجماعات المتشددة، التي تضطرها الظروف أحيانًا إلى اللجوء لهذه الطريقة، ويحاورون ليدفعوا خطرًا مقبلاً عليهم، فإذا دفعوه قالوا: هل من المعقول أن يحاور صاحب الحق المبطلين، رأينا هذه في طرائق جماعات الإرهاب، الذين إذا دخلوا السجون، طلبوا الحوار مستضعفين، فإذا أطلق صراحهم عادوا إلى ما كانوا عليه، وأنظر إلى الأحزاب السياسية الساعية للوصول إلى سدة الحكم، إذا شعرت بتدني شعبيتها حاولت أن تتحاور مع أحزاب أخرى، قد يكون بعض مشروعاتها تناقض مشروعه تمامًا، وقد يتحالف معها لتحقيق الغاية للوصول إلى سدة الحكم، فإذا قوى واستعاد قوته تراجع عن كل ما حققته حواراته السابقة، فقد كانت جميع الأحزاب قديمها والمستحدث منها جميعها تتحاور، وعلى رأسها حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وكان بعد الثورة يسرع في حوارات مع الجميع، الإسلامية منها وغير الإسلامية، ويعقد التحالفات حتى وصل إلى سدة الحكم، فأصبح الحوار لمجرد استهلاك للوقت لا للوصول إلى نتائج، والغريب أن بعض من أيدوه في البداية لا يزالون يخدعون بحواراته التي لم تصل إلى نتائج أبدًا حتى في حالات مرت بها البلاد بأحداث جسام، حتى أن حزب النور السلفي وهو الذي صنع للإخوان أغلبية في كل من مجلسي الشعب والشورى، أصبح اليوم يعامل أسوأ معاملة. فالحوار لاستهلاك الوقت يستخدمه الكثيرون في العالم العربي للوصول إلى غاياتهم لا ليصلوا من خلاله إلى نتائج تنهي صراعًا فكريًّا أو سياسيًّا، وتتسع دائرة هذا اللون من الحوار بدءًا من الجماعات الدينية والأحزاب السياسية، وحكومات استبداد اشتهرت بشدة القمع، كالحكومة السورية القمعية التي لم ير لها مثيل في العالم، ودعوة نظامها للحوار لم تنقطع منذ قامت الثورة عليه، والقتل والتدمير يرافق الدعوة للحوار، والضحايا تتزايد، وهو مع ذلك يدعو إلى حوار لم يقصده قط إلاّ لتتاح له الفرصة أن يستمر في مخططه الرهيب لإبادة الشعب السوري، وهكذا ستجد في كل مكان قصة حوار لم يقصد به الوصول إلى نتائج يمكن أن تؤدي إلى حل صراعات كثيرة في أوطان العرب طائفية، ومذهبية، وسياسية، وقومية فهذا الحوار يعلن عنه بين الحين والآخر، إذا أجري زاد الاختلافات حدة، ووسّع الشقة بين المتحاورين، ولما تمكّن المالكي من رئاسة الوزراء استخدم الحوار لإضاعة الوقت وإلهاء النخبة السياسية المعارضة له، يستطيع أن يمضي لما يخططه من صنع فرقة بين العراقيين على أسس طائفية، فالحوار الذي لا تأتي إليه الأطراف المشتركة وهي تطلب الحق، ولا يهمهم مَن هو الذي جاء به منهم، وأن يكون حوارهم مقيدًا بآداب الحوار وأخلاق التعامل بين الناس، وهذا أمر يغيب عن الحوارات العربية وللأسف، ولهذا نجد في بعض الدول العربية، ويستثنى من الحوار النخب القادرة على إدارته، والتي يمكن أن تمضي به إلى النهاية التي تفرز نتائج هامة، تقضي على كثير من الصراعات الفكرية والطائفية والمذهبية والسياسية، ولكن الحوار عند الكثيرين في هذا العصر وسيلة لإضاعة الوقت واستهلاكه من أجل غايات أخرى لا شك أنها غير نزيهة، وحتى يصل العرب إلى الزمان الذي يقدرون فيه ما للحوار من فوائد إذا أجري على أسس متفق عليها، وآداب لا أحد يجهلها، وغايته الوصول إلى حق وحقيقة لابد من موقف من حوار استهلاك الوقت وإضاعته، هذا ما نرجوه والله ولي التوفيق.