ليس كل من يطلق على نفسه ِأنه داع، هو يدعو للحق فعلًا، فكم لبس رداء الداعي والداعية، من ينفر الناس عن هذا الدين الحنيف، ويلقي على عامة الناس ما يجعل الجاهل منهم يظن أن ما يقوله هو الحق، الذي جاء به الدين فيتعصب له فيكون أول من يشوه هذا الدين عند من لم يعتنقوه، وقد روى البخاري في صحيحه بسنده إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر، قال: نعم، قلت: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير، قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه، قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله: صفهم لنا قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك، قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال: فأعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك»، وفي الحديث بيان عن فترتين عاشهما المسلمون من قبل ظهر فيها شر، ثم خير فيه دخن، ثم شر عظيم خير للإنسان فيه أن يعتزل الناس، فالخير المحض عرفناه بظهور هذا الدين الحنيف في قرونه الثلاثة، التي هي خير القرون، وأما الخير الذي فيه دخن فقد تكرر حيث يظهر بين الحين والآخر منظِّرون يلبسون لكل زمان رداءه، لكنهم لا يهتدون بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يلبسون على الناس فيدعونهم لما يريدون هم، ويدعون أن ما يدعون إليه هو الحق من هذا الدين، وهو ضده تمامًا، وأصدق مثال لهؤلاء الخوارج في كل عهد منذ ظهروا وحتى اليوم يلوحون بشيء من الدين، ويستخدمون النصوص بعد تأويلها لما يريدون تحقيقه، وهم يظهرون حينًا فيواجهون حتى يتواروا تمامًا ولا يبقى لهم ذكر، ولكن جذوتهم تبقى حية تتحرك ببطء وراء الجدر، حتى إذا حانت الفرصة لهم عبثوا بمقدرات الأمة وأراقوا الدماء وأضاعوا الأموال وهتكوا الأعراض، ولا يردعهم إلا القوة، ثم فترة يظهر فيها الدعاة الذين يقفون على أبواب النار وصفهم أنهم منا ويتكلمون بلساننا ويخدعوننا دومًا بمعسول كلامهم، ولكنهم ينظّرون للشر، ولعلهم هم الذين نظّروا لخوارج عصرنا ولا يزالون ينظّرون لهم، وهؤلاء يصرفون عن الدين، حيث يطرحون للناس أفكارًا متطرفة هي أساس كل شر في مجتمعات المسلمين اليوم، شوهوا سمعة المسلمين، بل وشوهوا سمعة الدين، وأظهروا المسلمين قساة القلوب، لا تسامح عندهم لمن يخالفهم في دين أو رأي ومنهج، يقتلون كل مخالف لهم بل ويمثلون بجثته، والغريب أن هؤلاء رغم تنظيرهم لهذا الشر كله تسمع منهم إذا ووجهوا بما يصنعون رقيق الكلام وكأنهم لا يعرفون سوى الخير، وما أن يكف الطلب عنهم حتى يعودوا إلى ما كانوا عليه، جربنا ذلك فيهم ورأينا المنظّرين منهم يعودون إلى سوء فعلهم عما قريب، والعاملون منهم حسب هذا التنظير ما أن يناصحوا حتى يظهروا الرغبة في التوبة يخادعون الله والذين آمنوا، ثم لا يلبثون إلا قليلًا ويعودون إلى ما كانوا عليه من أفعال قبيحة دون خوف ولا وجل، وهؤلاء خطرهم على الأمة عظيم، والقضاء عليهم مهمة علماء الأمة ورجال جيوشها وأمنها، بل وأفراد المجتمع جميعًا، كل حسب دوره المرسوم يقوم بما يجب عليه ولا يتهاون فيه، وإلا دمرت الأمة بعبث العابثين، وأول ما يجب علينا ألا نصدق ما يقولون، فنفوسهم مملوءة حقدًا وبغضًا لمواطنيهم وحكامهم، ولا أمان لهم أبدًا، فإن فرطنا فهم ينتظرون هذا التفريط لينقضوا علينا، وما نكتشفه اليوم من بؤرهم المختفية عن الأنظار يدل على أنهم يعملون ليل نهار من أجل غاياتهم الخبيثة، ولن نحمي وطننا منهم حتى نقضي على شرهم سواء كانوا منظرين أو ممولين أو أفرادًا عاملين فهم العدو فاحذروهم.