الربيع العربي والثقافة السياسية

من إحدى الهنات التي مست الثقافة العربية منذ آجال بعيدة أنها لم يوجد فيها عن السياسة علم مستقر، حتى إن محاولة سادة فقهاء الأمة الأبرار صوغ علم في هذا الجانب، وظهرت لهم مؤلفات أرادوا بها تأصيل علم سياسة، من مثل الأحكام السلطانية والولايات الدينية، لكل من الإمام الماوردي، وأبي يعلي، وجاء على عقبهم في رسالته الشهيرة السياسة الشرعية الإمام ابن تيمية رحمهم الله جميعًا، ومن قبله وبعده من حاول ذلك، إلا أن تلك الاجتهادات العظيمة لم ترقَ إلى أن تكون علمًا للسياسة يُرجع إليه، وتطور العلوم السياسية في حضارة العصر بلغت شأوًا عظيمًا، ويؤسفني أن العرب لم يشاركوا في ذلك، رغم وجود أعداد كبيرة من المتخصصين في هذه العلوم، ينقلون إلى شعوبهم منها ما جاء في اللغات الحية عالميًا، فنشأت الأجيال لا تدرك من السياسة إلا ما أتيح لهم أن يطلعوا عليه عبر وسائل الإعلام، ولما جاء الربيع العربي بانتفاضاته المتعددة ضد الاستبداد والقمع وغياب الحريات، وجدنا الكثير من سوء الفهم للقضايا السياسية، وحتى من تصدروا المشهد ممن سعوا إلى ترشيح أنفسهم لعضوية المجالس السياسية، أو الهيئات التأسيسية، وحتى من رشحوا أنفسهم لأعظم المناصب في الدولة، وهو منصب الرئيس، أظهروا جميعًا جهلاً ذريعًا بالشأن السياسي، وبرز الاختلال في أجلى صورة في مسيرة تلك الشعوب المنتفضة، وخشي الجميع على هذه البلدان من انتشار الفوضى خلالها، وهي ملاحظة اليوم في بعضها بوضوح، وفهم العامة أن الحرية تعني أن يفعل كل من شاء ما يشاء، وظن الكثيرون أن الانتقام ممن كان يحكم من قبل هو الطريق للاقتصاص به، وسمعت المطالبة بالإعدام تتردد، دون نظر إلى محاكمة عادلة، وأصبح الكثيرون يريدون عزل كل من عمل في ظل الحكومة السابقة أيًا كانت درجة مسؤوليته، وأما ما كان يتغنى به من سيادة القانون وإقامة العدل والمساواة، والعدالة الاجتماعية، فهي شعارات لا ظل لها في الواقع، وظهرت من الأحزاب ذات التوجهات الأيديولوجية ما لا حصر له من دينية وليبرالية ويسارية وحتى الاشتراكية، التي كادت أن تتوارى في جل بلدان العالم، وهذه الأحزاب لا تمتلك على أرض الواقع المقومات الأساسية لنشوء الأحزاب، حتى إن كثيرًا منها عند الانتخاب بالقائمة الحزبية النسبية، لم يستطع أن ينجح له نائب واحد فيصل إلى البرلمان، واستحوذ على البرلمان جماعة حزبية واحدة، عملت لهذا منذ زمن طويل سرًا، ساعدها فرض الانتخاب عبر القائمة الحزبية، والإعلان عن تغريم من لا ينتخب بمبلغ كبير نسبيًا، لا يستطيع دفعه بسطاء الناس، الذين هم جمهور الناخبين، وكأن المشهد أعد لهذه الجماعة لتحظى بما تسميه الأغلبية البرلمانية اليوم، وبدأت تظهر الاختلافات حادة، فنتج عنها كل عيوب النظام الذي انتفض عليه وسقط، وغابت كل المبادئ الديمقراطية المبشر بها فحضر الإقصاء في أكثر صوره حدة، وأصاب حرية التعبير العطب، فأحيت عادتين من عادات الجاهلية الأولى، بين الفخر والاعتداد بما يظنه البعض قدرات له ولجماعته، وبين الهجاء المقذع، الذي وسيلته الأردأ الاتهام بشتى الجرائم ورذائل الأخلاق، وبالسباب والشتائم من اللون المسيء، الذي لا يجري على لسان عاقل، وحتمًا كل هذا ليس هو حرية التعبير التي رنا إليها الجميع في هذا الربيع، الذي نرجو ألا يؤول سريعًا إلى خريف خطر يدمر كل شيء، هذا هو الوضع اليوم كما نراه ونشاهده في مصر، ولعل أول ثورات الربيع العربي في تونس نرى اليوم بعض هذا يتسرب إليها، ورغم أننا نعلم يقينًا أن مثل هذه الثورات قد تتعرض لمثل هذا زمنًا، ولكن أن يطول الأمر إلى هذا الحد، فهذا هو الخطر الحقيقي، ولهذا فإن التأسيس لثقافة سياسية معقولة في الدول العربية في التعليم ونشر الوعي بها عبر الوسائل الإعلامية ووسائل الاتصال الحديثة، هي الحماية الأساسية لإنقاذ تلك البلدان من فوضى شاملة قد تأتي على كل شيء ولا تحقق للشعوب شيئًا مما تتطلع إليه، ورغم أن مصر أكثر الدول العربية وعيًا بهذه الثقافة، وفيها من الرموز الثقافية المهمة الكثيرون، رأينا فيها ما يحدث اليوم، فما بالك بغيرها من الأوطان العربية، فالثقافة السياسية لا يجب أن تكون نخبوية، بل يجب أن تكون ثقافة شعبية يعيها جميع أفراد الأمة، الذين لهم الحق في الحصول على الحقوق الإنسانية المرعية، فإذا حرموا من هذه الثقافة ولم يعوها فإن ما سيحدث هو هذا وأكثر منه، فهل يعون هذا، هو ما أرجوه، والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: