أحد الدعاة الوعاظ زعم أنه رحل إلى بلاد يعظم أهلها القبور , يدعون عندها , ويخصصون بعضها لقضاء بعض الحوائج , فهذا قبر من فيه يقضي حاجة المرأة التي لم تنجب , وذاك يشفي المرضى من سائر الأمراض أو أمراض مخصوصة كالسكر والضغط , فالرجل تحمل المشاق من أجل أن يحمل إلينا صوراً باهته لتجمعات يزعم أنها حول قبور صالحين , وأنها احتفاء بهم , وأخذ في برنامج بث له عبر قناة فضائية يغمز من قناة بلدان إسلامية عديدة , أخذ أهلها بعد بث حلقة برنامجه يعترضون على الأسلوب والطريقة المستفزة , التي عرض بها أفكاره , ويقولون التوحيد هو عقيدة المسلمين وهو لا يخفى على أحد من المسلمين اليوم ,
وإذا وقع من جاهل مخالفة فإن في بلاده من العلماء من هو أقدر على إرشاده إلى الصواب ورده إلى الحق , أما أن يلجأ أحد إلى الإعلام لتشويه سمعة أهل بلد بأنهم يمارسون شركاً أو مايؤدي إلى الشرك فهذا أسلوب في هذا الزمان مرفوض , وأما ما كان فيه بين المسلمين اختلاف مثل البناء على القبور أو الكتابة عليها , فلم تعد اليوم سبباً للحكم على بعض المسلمين بالشرك , وإن كانت عند البعض سبباً لذلك فهو فهم لهم لا يتعداهم إلى سواهم , وقد يؤدي إلى مالا تحمد عقباه , وصاحبنا الداعي يروي دوماً كثيراً من القصص , وقد خبرنا قصصه من قبل واكتشفنا عدداً منها لم يقع ولا أصل له , ولعله يظن أن رواية قصة وإن لم تحدث تساعده على الوصول إلى مراده مما يسرد في المواعظ , فدعوى أن المسلمين في أي قطر من أقطارهم مهما بلغ الجهل ببعضهم يسجدون لقبر ولي لا يمكن تصديقه , فكثيراً منا زار البلدان التي تحدث عنها ولم يروا مثل هذا , وقد يفعل بعض من يزورون قبور الأولياء بعض ما نهى عنه الشرع , ولكن لا يمكن أن يكون مثل السجود للقبر , وفي تلك البلاد من العلماء الأفذاذ من لا يمكن أن يسمحوا بأن يحدث هذا , وما أعجب اختياره ليثبت دعواه لشاب جاهل غير عربي , لا يستطيع أن يعبر عن ما يدور في خلده باللغة العربية , ليضع على لسانه ما يريد أن يثبته مما يدعيه على أهل تلك البلاد , وهذا أسلوب لا أدري بما أصفه , إلا أنه حتماً استغلال للأبرياء يشوه صورتهم , والغريب أن الرجل ذهب كما صرح ليعد تقريراً عن ظاهرة اللجوء إلى المقبورين الذين أسماهم أصناماً تحت الأرض , وفيهم عباد لله مخلصين صالحين , وحتى لو عبدهم فعلاً جاهلون لتحرج ذي العلم أن يطلق عليهم مثل هذا اللفظ , فأبرز لنا موهبة جديدة له مصوراً وصحفياً , ولم ينجح في هذه المهمة , فهو لم يلتق أحداً ممن صورهم ولا سأله عن ما يفعل , والصور لا تثبت ما يقول عنهم , كما أنه لم يلتق أحداً من علماء هذه البلاد ولا حاوره , ولم يجب طوال حلقة برنامجه على أحد اتصل به , إلا من ظهر له أنه يؤيده , فالمتصل من سوريا الذي أبدى تأييداً للداعية الواعظ , تجاوب معه وأجاب على ما طرحه من وجود اختلاف في وصول ثواب قراءة القرآن للميت , وأكتفى بأن لم يرها مشروعة , رغم أن القول بوصول ثوابها إلى الميت إذا أهدى إليه هو قول الجمهور , فهو مذهب الأحناف والحنابلة وفي مذهب الشافعية القولان , وإن ذكر الإمام النووي في كتابه الأذكار أن الإمام الشافعي قال : ويستحب أن يقرأ عنده ( أي الميت ) شيء من القرآن , وإن ختموا القرآن كله كان حسناً , وعند المالكية أيضاً القولان , وهو اختيار الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم , وإذا كان ثواب القراءة يوهب للميت , فلا فرق بين يقرأ عند قبره أو بعيداً عنه , والصلاة في المقابر حرمها واعظنا الفطن , مع أن الجمهور على صحة الصلاة فيها مع شيء من الكراهة , والمالكية يجوزون الصلاة فيها سواء أكانت عامرة أم دارسة , مبنوشة أم لا , لمسلم كانت أم لمشرك , وأما المسجد الذي بجوار قبر أو أدخل فيه قبر مثل مسجد سيدي رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فالصلاة فيه جائزة , والصلاة إلى القبر إن كان بينه وبين المصلين حائل فجائزة أيضاً كما ينص على ذلك جمهور الفقهاء , ولو أنتصر الرأي الذي يقول أنه يجب هدم كل مسجد بني وجواره قبر أو فيه قبر , أو نبش الذي فيه , لأوقع هذا فتنه , المسلمون في غنى عنها , وعندهم من النوائب ما يكفيهم , ومن يتصور أنه حماية لجناب التوحيد كما يزعم يجب أخراج ضريح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مسجده , وأنه يستطيع أن يفعل ذلك إنما يتخيل أمراً لن يحدث أبداً , فلن يجرؤ أحد مهما بلغت مكانته أو قدره الدنيوي على فعله وإلا عرض نفسه لغضب الأمة المسلمة كافة , ودعوى أن ما فعله الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنها حجرة عائشة التي فيها قبره صلى الله علية وسلم , كان خطأ يجب تصحيحه , إنما هو وهم , فمنذ القرن الأول الهجري وحتى يوم الناس هذا والوضع على ما هو عليه , ألم تلتفت لهذا الخطأ المزعوم سوى نفر منا في هذا العصر , وترديد مثل هذه الأقوال إنما يراد به عزل بلادنا عن محيطها الإسلامي , كما يريد أهل العنف عزلها عن محيطها العالمي , ولن يتحقق للفريقين مرادهم بإذن الله , وصاحبنا قد اعد حتى الاتصالات في برنامجه مسبقاً ليدعم ما يطرح برأي المتصلين , فهذا أحدهم يتصل به أسمه فكري فما أن يقول : عندنا في اليمن حتى يبادره بالقول : سأجيبك فهذه قضية مهمة , رغم أن المتصل لم يطرح سؤالاً بعد , إن هذا النوع من الإثارة غير مطلوب اليوم , فالذين بدأوا في بلادنا اتهام المسلمين في شتى أقطارهم , وجزءاً من أهل هذا الوطن بأنهم لا يفهمون التوحيد حتى أن أحدهم يقول : ( إن عامة المسلمين من الجهال لا يعرفون المعنى الحقيقي للعبادة , فيتوجهون بها إلى غير الله تعالى جهلاً فيوقعون في الشرك الأكبر المخرج من الملة ) .
ولا يكتفى بهذا حتى يعم الجميع به فيقول : ( لما كنت ممن يعلم الحقائق المروعة المتمثلة في تفشي الشرك الأكبر بشكل مخيف في مختلف أنحاء العالم الإسلامي ) ويذكر أن ذلك دفعه إلى تحرير رسالة في هذا الباب , ويسانده آخر مؤكداً أن أغلب المسلمين اليوم لا يفهمون معنى التوحيد , وها هو صاحبنا يلحق بهما , فلا يرى فهماً للتوحيد سوى فهمه , بل حتى في المسائل الفقهية الفرعية يظن أن ألا فهم صحيح سوى فهمه , وهو رغم أنه سمع من يزورون القبور يدعون الله , ولكنه مع ذلك لا يحسن الظن بهم , ولا أدري لم ير في زيارة قبر صالح محظوراً , وزيارة القبور والسلام على أهلها والدعاء لهم سنة متبعة , وكل فعل يقدر بقدره , وخير لنا أن نجمع ولا نفرق , ولا نحكم على فعل أحد أنه حرام لأننا نتصور أنه يريد به كذا أو كذا , مما لم نستوثق منه ونسأله عن فعله ونناقشه فيه , ولا أدري لماذا لا يكف هؤلاء عن مثل هذا , ونحن اليوم ندعو للألفة والتعاون بين المسلمين , والتعايش بينهم وإن اختلفت طوائفهم ومذاهبهم , فهلا فعلوا فهو ما نرجو والله ولي التوفيق .