الصداقة التي تدوم، لا تكون إلا بين الأصفياء الأنقياء، الذين تجمعهم من الغايات أسماها، دينية كانت أو وطنية، أو ثقافية وعلمية
كلما طال بالإنسان العمر كان حصيلة تجارب حياته تغنيه في مواجهة أحداث الحياة, وأهدى منها لمن هو أدنى منه في سنوات العمر ما يختار منها لتكون له ثروة معرفة ناتجة عن تجارب حية تجعله أقدر على مواجهة هذه الحياة, فتواصل الأجيال بهذا المعنى يجعل الحياة أكثر ثراء بالمعرفة والتجربة وحينما يعبث العابثون بهذا اللون من التواصل, يضربون الحياة في مقتل, حينما تصبح الأجيال الجديدة لا علاقة لها بما سبقها من أجيال, والصداقة معنى لا يدركه الكثير من الناس في عصر التبست فيه المعاني, فأطلق اللفظ على ما يضاده معنى, فتصبح الصداقة لا تعني سوى الاجتماع على مجموعة من المصالح, ما كان منها مشروعًا وما ليس كذلك فإذا غابت هذه المصالح انهارت الصداقة, بل قد تنقلب إلى عداوة, وحتمًا هذا لا يقع بين الصفوة, الذين نعني بهم من تلتقي منهم الأرواح قبل الأجساد فالأرواح بطبيعتها إذا تشابهت ائتلفت, وإذا تنافرت اختلفت, وهي لا تتشابه إلا إذا كانت القيم والمبادئ فيما بينها تكاد أن تكون واحدة, وأما إذا تنافرت فقد اختلفت بينها القيم والمبادئ, وكلنا ندرك أن القيم والمبادئ إنما تنتج عن ثقافة عميقة لها أصول متنوعة, وإن كان الدين في هذه الثقافة له فيها أثر الموجه والفاعل, ولذا رأينا أن خير الصفوة من اجتمعوا على محبةٍ لله ولرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- تسمو بهم إلى مرتبة أعلى في هذه الحياة حتى يرى الناس فيهم القدوة, ولهم من الصداقات نماذج تحتذى, ولعلي أجد من الوقت فسحة لأسوق ألوانًا من صداقات العباد والعلماء الأتقياء وما نشروه بين الناس من تواد وما ضربوه لهم من مثل عليا تسمو بها الأرواح وتأتلف, وفي كل زمان ستجد من هذا اللون من الصداقات ما تزين الزمان حتى في خلال رداءة فيه وقد عاصرت من هذه الصداقات عددًا رأيت منهم العجب في صداقة تستمر من مقتبل العمر وحتى يلقى المتصادقان ربهم بالوفاة, مما لا تجده عند غيرهم من البشر فالمحبة الأسمى لربهم ولرسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم حلقت بهم بعيدًا عن كل ما يشوه الصداقة, وعلى كل حال قد رأيت في الحياة ألوانًا من الصداقة بين صفوة الناس قيمًا ومبادئ, مما جعلني أتبرأ من ألوان صداقات لاثبات لها, لأنها سائرة عما قليل تزول – لأنها بنيت على أسس واهية أعظمها خطرًا المصلحة, والمصالح ألوان أسوأها المادية فيبني البعض صداقاته على قدر ما يستفيد من الناس ماديًا, فتجد حول صاحب المال الثري كثير من الناس يدّعون صداقته, فإذا قل ثراؤه ولم يعد يستطيع أن يلبي حاجات هؤلاء الذين يدّعون صداقته تفرقوا عنه, وكأنه لم تربطهم به علاقة, وهذا صاحب المنصب الذي يحتاجه الناس في قضاء حوائجهم, يلتف حوله الكثيرون ممن يدّعون صداقته, فإذا عزل أو أنتهت خدمته انصرفوا عنه وكأنه لم يكن لهم صديقًا قضى لهم من الحوائج ما كانوا يعجزون أن يصلوا إليه لولا ما قدمه لهم من خدمة, وقد تكون المصالح أدنى من ذلك كصداقات المثقفين التي تجمعهم ما داموا متوافقين في الرأي, يشد بعضهم عضد بعض فإذا اختلف أحدهم معهم نبذوه وكأنه لم يكن لهم يومًا صديقًا, وقد يصادق أحدهم الآخر على أنه يوافق رأيُه رأيَه, فإذا اكتشف اختلافًا معه في فكرة أو رأي, لم يعد عنده لصداقته معنى, بل لعله ينقلب إلى عدو له, ورغم أنهم يرددون دومًا أن الاختلاف لا يُفسد للود قضية, ولكنهم كثيرًا ما يرددون من القيم ما لا يلتزمون بها, وللمثقفين صداقات لا تمنعهم من أن يغتاب بعضهم بعضًا في مجالسهم, فتسمع من يدّعي أنه صديق لفلان, ما إن يغيب هذا الفلان عن المجلس إلا وأخذ في اغتيابه بكل نقيصة وهذ مجرد علاقة طارئة, فإن غاب بعد ذلك لأي سبب أحدهما لم يسأل عنه أحد منهم فكلهم طارئون, رغم أن هذه المجالس قل منها ما يضيف إلى الثقافة شيئًا ذا نفع, ولهذا فإن الصداقة التي تدوم لا تكون إلا بين الأصفياء الأنقياء الذي تجمعهم من الغايات أسماها دينية كانت أم وطنية, أو ثقافية وعلمية, فهؤلاء هم الصفوة الذين تدوم الصداقات بينهم, لذا فعلى العاقل أن يحرص على أن يكون بينهم, يتعلق بهم, فهم الذين يجعلون للحياة معنى, أما أولئك الذين يتسلون بعلاقاتهم بالخلق ولا يثبتون على شيئ منها إلا ما حقق لهم مصلحة, والمصلحة مهما كانت تزول, وإذا زالت زالت العلاقة سمها حيئنذ ما شئت معرفة, أو رفقه زمان, أو مسايرة لقطع الوقت إذا ثقل على الناس, ولكنها ليست صداقة حقيقية, وقبل أن أنهي هذا المقال وجب أن أنوه أني لم أقصد به معينين, وإنما هي معانٍ تداعت على الذهن وخطها القلم, رجاء أن يستفيد منها قرائي الأعزاء, جمعنا الله على محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ونقى قلوبنا وهدانا أن نكون أولياء لبعضنا بمحبة وود يجمعنا في الدنيا ونرجو أن يجمعنا في الآخرة إنه سميع مجيب.